الخميس 08 مايو 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

السينما المصرية.. من زمن المجد إلى الانحدار

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- "اللايكات" تصنع أبطال السينما.. والفن يسقط فى فخ الأرقام

- الأفلام تحولت من مرآة تعكس قضايا المجتمع إلى سوق للترفيه السطحي والمحتوى الفارغ

- "الترند" يقتل الفن.. والنجومية تباع فى سوق "التفاهة"

- الشهرة للسطحيين.. والموهوبون خارج نطاق الخدمة

فى زمن لم تكن فيه السينما مجرد وسيلة للترفيه، بل رسالة ومرآة للواقع، كانت مصر تتربع على عرش الفن العربي، تصدر للعالم نجوما حقيقيين وأعمالًا خالدة، أما اليوم، فقد انقلب المشهد؛ فسقطت القامات، وتصدر الشاشات من لا يملكون من الفن سوى ملامح "الترند" وسرعة الانتشار، بين زمن فريد شوقي وفاتن حمامة، وزمن عصام عمر وطه دسوقي، تتجلى الفجوة الصادمة التي تجبرنا على التساؤل، كيف تحولت السينما المصرية من صناعة للوعي إلى ساحة لتفريغ المحتوى الخفيف؟ وما الذي أفقد هذا الفن العريق روحه وهويته؟ خاصة أن السينما المصرية كانت ركيزة ثقافية وفنية رئيسية في الوجدان العربي، لعقود طويلة، وشكلت الأفلام المصرية مرآة للمجتمع ومتنفسا جادًا للفكر، ومسرحا ناطقا بالحياة اليومية للناس، بمآسيها وأفراحها.

في زمن المجد، كانت أسماء مثل فريد شوقي، فاتن حمامة، شكري سرحان، عمر الشريف، هند رستم، ونادية لطفي، ليست فقط نجوما على الشاشة، بل رموزا للقوة والتمثيل الحقيقي والإخلاص لقيمة الفن، آنذاك، لم تكن السينما مجرد وسيلة ترفيه، بل كانت أداة توعية وتثقيف ومقاومة، حيث ناقشت قضايا المرأة، الفقر، الظلم الاجتماعي، التحرر، والانتماء الوطني، كانت الأفلام تكتب بعناية، وتخرج بضمير، ويُمثلها فنانون يعون قيمة ما يقدمونه، لا مجرد نجوم يسعون للانتشار والربح السريع.

ولكن، ومع مرور الزمن، بدأت هذه الصناعة العريقة تفقد بريقها، ظهرت علامات الانحدار تدريجيًا، بدءًا من التسعينيات، حين دخلت السينما مرحلة الاستسهال، فغلبت الكوميديا التجارية على الدراما الإنسانية، وحلت مشاهد الإيحاء محل الحبكة، وبدأت "الخلطة الجاهزة" تسيطر على الإنتاج: قليل من العنف، كثير من الابتذال، نجوم ترند، وسيناريو ركيك، وتسارعت وتيرة الانحدار في الألفية الجديدة، لا سيما مع صعود السينما العالمية وتأثير المنصات الرقمية، في وقت لم تطور فيه السينما المصرية أدواتها، ولم تواكب التغيرات التقنية والجمالية في صناعة الفيلم، وأصبحت السوق تتحكم فيها الحسابات التجارية البحتة، وتحكم "الصالات الكبرى" ما يُنتج وما يُشاهد، فانكمشت مساحات الفن الحقيقي لحساب البضاعة الرائجة.

ومن المؤسف أن بعض صناع السينما اليوم يتعاملون مع الجمهور على أنه كتلة استهلاكية بلا ذائقة، فيقدمون له أعمالًا بلا محتوى، ويكتفون بالإضحاك السطحي أو التلويح بالإثارة، ومن النادر أن نجد فيلما يحاكي عمق "الأرض" أو "القاهرة 30"، أو يحاكي إنسانية "أريد حلًا"، أو حتى واقعية "الكرنك"، وإذا ضربنا مثلا بالنجم فريد شوقي، الملقب بـ"وحش الشاشة"، هذا النجم الكبير لم يكن مجرد ممثل، بل كاتب سيناريو ومنتج ومؤلف، ساهم في تحويل السينما إلى منصة للقضايا الاجتماعية، أفلامه لم تكن تهدف للربح فقط، بل كانت وثائق حيّة عن هموم المواطن البسيط،  وفاتن حمامة، فقد ارتقت بالسينما النسائية إلى مستويات غير مسبوقة، مقدمة أدوارًا تناقش بعمق قضايا المرأة والكرامة والعدالة، في أعمال مثل "أريد حلًا" و"دعاء الكروان"، تلك الحقبة كانت السينما فيها حوارًا مع المجتمع، لا صدى لتفاهاته، كانت النجومية تُبنى على الموهبة والإتقان، لا على عدد المتابعين على "تيك توك"، ولا على خفة الظل المفتعلة في المقاطع القصيرة، أما اليوم، فالمشهد مقلوب رأسًا على عقب، حيث يتصدر بعض النجوم المشهد لا لقوة حضورهم التمثيلي، بل لحسن توظيفهم لمواقع التواصل، أو لأنهم يتقنون تقمص "شخصية الترند"، وأمثال عصام عمر، طه دسوقي، وأحمد داش، ليسوا بالضرورة عديمي الموهبة، لكن صعودهم المفاجئ والسريع يطرح سؤالًا مؤلمًا: هل لا يزال الفن يُقاس بالجودة؟ أم أننا نعيش عصر "اللا معيار"، حيث يكفي أن تكون خفيف الظل أو تملك قاعدة جماهيرية على الإنترنت، حتى تُسند إليك بطولات أعمال ضخمة؟ أحمد داش، الذي بزغ اسمه في سن صغيرة، لكنه عالق في فلك أعمال سطحية لا تنحت له قيمة فنية تُذكر، أما طه دسوقي، فرغم كاريزمته وذكائه التمثيلي في أدوار معينة، فإن تحويله فجأة إلى نجم شاشة أول، يعكس فقرًا في البدائل وكسلًا في التنقيب عن طاقات تمثيلية حقيقية.

والحق يقال إن التحول من مدرسة فنية صارمة إلى ساحة مفتوحة لكل من يمتلك حضورًا إلكترونيًا، أفقد السينما المصرية توازنها، لم تعد القصة، أو السيناريو، أو اللغة البصرية في الفيلم، عناصر تصاغ بعناية، بل أصبحت مجرد خلفية لإبراز النجم "الترند"، أو لخلق لحظات تصلح للميمات والتداول على السوشيال ميديا، فالخلل لا يكمن فقط في النجوم الجدد، بل في منظومة الإنتاج، التي أصبحت تُدار بمنطق السوق السريع، لا الجودة الممتدة، لم يعد هناك وقت للصقل، ولا مساحة للتجريب، ولا تقدير لممثل يعمل على الشخصية بعمق نفسي ودرامي كما كان يفعل محمود المليجي أو أحمد زكي، اليوم، يقاس النجاح بعدد مشاهدات الفيديو، أو بـ"اللعبة على خفة الدم"، وليس ببناء شخصية تمكث في ذاكرة الجمهور لعقود.

إننى حزين على حال السينما وما آلت اليه، السينما التي أعطتنا يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، فاتن حمامة، وأحمد زكي، لا يجب أن ترضى بأن تتماهى مع نجوم "الفيديوهات الخفيفة" بل عليها أن تتذكر من أين جاءت، لتعرف إلى أين يجب أن تعود، لقد آن الأوان أن نعيد النظر بعمق فيما آلت إليه السينما المصرية، وأن نعترف، بلا مواربة، بأننا نعيش أزمة فنية حقيقية، لا يمكن تبريرها بزمن مختلف أو جمهور متغيّر، فإن ما نشهده اليوم من تراجع ليس قدرا مفروضا، بل نتيجة مباشرة لتهاون فني، واستهتار بالقيمة، وتسليع للمواهب حتى أصبحت الشهرة تُصنع بلا رصيد حقيقي من الموهبة أو العمق، ولم تعد السينما أداة وعي، بل تحولت في كثير من إنتاجاتها إلى أداة ترفيه فارغ، تجمّل التفاهة وتُسوّق للضحك المبتذل على حساب المضمون، وبينما كان الماضي يشهد ولادة نجوم يحملون قضايا وطنهم على أكتافهم، نعيش اليوم مرحلة يُمنح فيها دور البطولة لمن يملك عددًا أكبر من المتابعين، لا لمن يملك قدرة على ملامسة الوجدان.

ومع هذا الانحدار، يظل السؤال معلقًا في ضمير كل فنان ومنتج ومشاهد: هل نريد الاستمرار في الانجراف مع التيار، أم حان وقت الوقوف؟ هل نقبل أن يكون الفن أداة تلميع فارغة أم نعيده إلى مكانته كقوة تغيير؟ إن مصر التي أنجبت فريد شوقي وسناء جميل وأحمد زكي، لا ينبغي أن ترضى بأن تكون ساحة لتجارب الترند، بل ساحة للمواهب الحقيقية التي تُبنى وتُصقل، لا تُستهلك وتُنسى، السينما ليست رفاهية، بل مرآة مجتمع. وإن كانت اليوم تعكس هشاشة، فعلى كل غيور على الفن أن يعيد إليها صلابتها، ويفتح النوافذ أمام جيل جديد يعرف أن التمثيل مسؤولية، لا فرصة لتمرير الوقت.

ويبقى السؤال الملحّ: هل يمكن للسينما المصرية أن تستعيد مجدها؟ الجواب ممكن، لكنه مشروط بإعادة الاعتبار للفن كقيمة لا كسلعة، وبتحقيق توازن بين الطموح الإبداعي والعائد التجاري، وبدعم الدولة والإنتاج الخاص للسينما الجادة، وإن صدقت النوايا في النهوض سيعود وهج السينما المصرية إلى سابق عهده.

الصفحة السابعة من العدد رقم 411 الصادر بتاريخ 8 مايو 2025
 
تم نسخ الرابط