الخميس 08 مايو 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

حينما يصطدم الواقع بجمود النصوص

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- قانون الإيجار القديم.. "صندوق أسود" يحتفظ بحكايات المصريين في بيوتهم القديمة

- مشروع القانون يمنح فترة انتقالية تمتد لخمس سنوات.. وفي نهاية هذه الفترة يصبح العقد منتهيًا

- القانون الجديد يجب أن يعترف بأننا لا نتعامل مع عقود على ورق بل مع حياة بشر وأمان عائلات

- أدعو الدولة إلى إطلاق صندوق اجتماعي خاص لدعم الأسر الأكثر احتياجًا التي قد تتأثر بهذه التعديلات

- إما أن نكتب قانونًا يُضرب به المثل في التوازن الإنساني أو نعيد إنتاج أزمة سنظل ندفع ثمنها لعقود أخرى

- وزير الإسكان: الدولة مش هتطلع حد من مسكنه وتسيبه في الشارع

القوانين، مهما بلغت دقتها وصلابتها، لا تكون عادلة إلا إذا لامست نبض الناس، وشعرت بأوجاعهم، وتحدثت بلغتهم.

فالقانون ليس كائنًا جامدًا يعلو فوق الحياة، بل هو انعكاس لاحتياجات الناس، ومرايا تعكس صراعاتهم اليومية بين الحق والواجب، بين الأمل والخوف، بين الماضي الذي لا نملك تغييره، والمستقبل الذي نصنعه بأيدينا.

ومن بين أكثر القوانين التي طالها الجدل عبر عقود، قانون "الإيجار القديم".

هذا القانون الذي أصبح أشبه بـ"صندوق أسود" يحتفظ بحكايات المصريين في بيوتهم القديمة، حيث الأبواب الخشبية المتآكلة التي شهدت ولادات وأفراحًا وأحزانًا، والحوائط التي احتضنت أسرًا كاملة لسنوات طويلة، دون أن تتغير الملامح أو تتبدل الأحوال.

لكن السؤال الذي لم يعد يمكن تأجيله: هل يمكن أن تظل العلاقة الإيجارية رهينة لقانون وُضع في زمن مختلف، لواقع اجتماعي واقتصادي تغير جذريًا؟ وهل من العدل أن يستمر المستأجر في دفع جنيهات معدودة في حين يعجز المالك عن إجراء صيانة عقاره أو حتى سداد فواتير الكهرباء والمياه الخاصة به؟

لقد توقفت طويلًا أمام مشروع التعديلات الذي أُعلن عنه مؤخرًا، والذي يسعى إلى إعادة التوازن المفقود في العلاقة بين المالك والمستأجر.

المشروع، الذي يتجه البرلمان لمناقشته خلال الأيام المقبلة، يفتح الباب أمام معالجة قانونية جادة لهذه القضية، لكنه في الوقت ذاته يفتح جراحًا قديمة لم تلتئم بعد.

التعديلات المقترحة تسعى لرفع القيمة الإيجارية تدريجيًا، وفقًا لمعادلة تقول إنها تحقق "العدالة".

ولكن العدالة لا تقاس بالأرقام وحدها، بل بالشعور الإنساني الذي يصاحبها.

فكم من عائلة مصرية بسيطة، تعيش في شقة إيجار قديم منذ عشرات السنين، لا تملك اليوم حتى تكلفة الانتقال إلى مكان آخر، ولا تجد في مدخراتها ما يسعفها لمجاراة الأسعار الجديدة.

هنا يكمن التحدي الحقيقي: كيف نوازن بين حق المالك في الحصول على عائد من ممتلكاته، وحق المستأجر في البقاء في بيت اعتاده وصار جزءًا من ذاكرته وكيانه؟ كيف نكتب قانونًا لا يُشعر أحدًا من الطرفين بأنه ضحية؟

اللافت للنظر أن مشروع القانون يمنح فترة انتقالية تمتد لخمس سنوات، يلتزم فيها الطرفان بشروط جديدة للعلاقة الإيجارية، من ضمنها زيادات سنوية تصل إلى 15% وفي نهاية هذه الفترة، يصبح العقد منتهيًا، ما لم يتفق الطرفان على تجديده بشروط جديدة.

هذه الصيغة تبدو منطقية في ظاهرها، لكنها في جوهرها تحتاج إلى ضمانات اجتماعية واقتصادية واضحة، كي لا تتحول هذه التعديلات إلى قنابل موقوتة داخل آلاف البيوت المصرية.

أعرف عن قرب، بل وكنت شاهدًا في مواقف عديدة، على معاناة ملاك حُرموا من التصرف في عقاراتهم لسنوات طويلة.

بعضهم لجأ إلى القضاء، وبعضهم مات وفي قلبه حسرة على منزل لا يعود له إلا اسمًا.

وفي المقابل، رأيت مستأجرين فقدوا النوم من الخوف، وتساءلوا: "هل سنُطرد في الشارع بعد كل هذه السنين؟"

إن الأزمة ليست قانونية فحسب، بل هي نفسية وإنسانية بامتياز.

القانون الجديد يجب أن يعترف بأننا لا نتعامل مع عقود على ورق، بل مع حياة بشر، وأمان عائلات، واستقرار أجيال.

وإذا كان لا بد من التغيير، وهو بالفعل أمر ضروري، فيجب أن يتم ذلك وفقًا لمظلة من العدالة الاجتماعية.

على الحكومة أن تضع برامج إسكان بديلة للمستأجرين المتضررين، وتفتح لهم أبوابًا جديدة للتمليك أو الإيجار بأسعار عادلة.

يجب أن تكون هناك لجان لتقييم الحالات على أرض الواقع، تنظر بعين الرحمة والعدل، لا بعين الحسبة الجافة.

كما أدعو الدولة إلى إطلاق صندوق اجتماعي خاص لدعم الأسر الأكثر احتياجًا، التي قد تتأثر بهذه التعديلات.

لا يمكن أن نطالب الناس بدفع إيجارات مرتفعة دون أن نتيح لهم بدائل، أو نمد لهم يد العون. ولا يصح أن نعالج خللًا بقانون قديم بظلم جديد.

لقد آن الأوان أن نعترف بأن بقاء الأمور على حالها ليس حلًا، لكنه في الوقت ذاته لا يعني أن أي تغيير سيكون مقبولًا.

التغيير المطلوب يجب أن يكون متدرجًا، مدروسًا، ومتوازنًا.

لا نريد قانونًا يفتح أبواب النزاع في المحاكم، ولا نريد تشريعًا يهدد استقرار المجتمع، بل نريد قانونًا يداوي الجرح، لا يزيده عمقًا.

في تقديري الشخصي، يجب أن يرتكز القانون الجديد على مبادئ أساسية: أولها، أن يكون التغيير عادلًا وزمنيًا.

ثانيها، أن تراعي الدولة الفئات الهشة والمتوسطة.

ثالثها، أن تعطي العقارات القديمة فرصة للتجديد والصيانة من خلال تحفيز الملاك على تطويرها. ورابعها، أن تعترف الدولة بدورها كضامن للعدالة لا كمراقب صامت.

والأهم من كل ذلك، أن نكتب هذا القانون ونحن نستمع إلى صوت الناس.

أن نستمع إلى الأرملة التي تخشى أن تُجبر على مغادرة شقتها، وإلى المعلم الذي أفنى عمره في بيت صغير بالإيجار، وإلى الشاب الذي لا يملك منزلًا ويُطالب بسداد إيجار جديد لمكان ورثه أبوه كمستأجر.

هؤلاء هم من يجب أن نأخذ رأيهم قبل أن نقرر مصيرهم.

والحقيقة أنني توقفت باهتمام أمام تصريحات وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية المهندس شريف الشربيني، الذي أكد أن الحكومة منفتحة على مقترحات النواب بشأن مشروعي القانونين المقدمين من الحكومة حول الإيجارات القديمة، ويمكن إعادة النظر في بعض المواد، مشددا على أن مدة الخمس سنوات لتحرير العلاقة بين المالك والمستأجر قابلة للنقاش.

وقال وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية إن فكرة تبادل الرؤى بين النواب والحكومة مسألة إيجابية جداً، مشيراً إلى أن أزمة الإيجار القديم هي أزمة معقدة لطرفي العلاقة الإيجارية (ملاك ومستأجرين)، حيث يعانون منذ زمن طويل، ما يتطلب إيجاد آلية حقيقية للتطبيق.

وأضاف أنه من الوارد إعادة صياغة مواد مشروع القانون وفقا لمقترحات النواب، وأنه من الممكن عدم تحرير العلاقة الإيجارية في بعض الحالات الإنسانية التي تستدعي ذلك.

وتابع إن العديد من المستأجرين لديهم وحدات أخرى مملوكة لهم ويعتمدون على دخل هذه الوحدات في الإيجار، مشيرا إلى أهمية وجود تقييم عادل لكل الحالات الموجودة، والدولة مستعدة لدعم كل الحالات.

ولفت إلى أنه من الممكن توفير سكن بديل حاليا، ولكن الوحدات المتاحة قليلة، وقد لا تتناسب تكلفتها مع المستأجرين، مضيفا أن الحكومة تدرس توفير مزيد من الوحدات خلال الفترة القادمة، وأن مدة الخمس سنوات لتحرير العلاقة قابلة للنقاش، قائلا: (الدولة مش هتطلع حد من مسكنه وتسيبه في الشارع).

ختامًا، أقولها بصدق: العدالة لا تأتي وحدها، بل تحتاج من يدافع عنها ويؤمن بها.

نحن أمام لحظة فارقة في التشريع المصري، فإما أن نكتب قانونًا يُضرب به المثل في التوازن الإنساني، أو نعيد إنتاج أزمة سنظل ندفع ثمنها لعقود أخرى.

وإني لأرجو من المشرّعين أن يتذكروا، وهم يصوغون نصوص القانون، أن العدالة لا تكتمل بالكلمات، بل بالشعور الإنساني الذي تتركه في قلوب من تطبّق عليهم.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 411 الصادر بتاريخ 8 مايو 2025
 

 

تم نسخ الرابط