«درويش».. مغامرة سينمائية تجمع بين المتعة والرسالة

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- الفيلم يحمل رسائل ذكية عن الاحتلال والمقاومة والبطولة الشعبية في زمن الأربعينيات 

- عمرو يوسف قدم أداء متماسكا.. وتحول درامي بارع من لص إلى بطل شعبي

- البطولة الجماعية صنعت معادلة النجاح للفيلم في شباك التذاكر 

- كيمياء خاصة بين عمرو يوسف ودينا الشربيني منحت الفيلم نكهة وجاذبية

رغم التحديات التي واجهت صناعة السينما المصرية في السنوات الأخيرة، فإن شباك التذاكر ما زال يشهد بين الحين والآخر لحظات انتعاش حقيقية، تثبت أن الجمهور لا يزال متعطشًا للتجارب السينمائية الجادة والمختلفة، وأن السينما، حين تقدم ما يستحق، تجد جمهورها مهما تغيّرت الأذواق والمنصات.

وجاء موسم الصيف السينمائي الحالي ليؤكد هذه الفرضية، إذ شهد تنوعًا ملحوظًا في طبيعة الأفلام، بين الأكشن والكوميديا والرومانسي، وكان من أبرز هذه التجارب فيلم «درويش»، الذي استطاع منذ أيامه الأولى أن يلفت الأنظار ويحقق حضورًا واضحًا في صالات العرض، وسط منافسة محتدمة، واللافت في فيلم «درويش» أنه اختار أن ينقلنا إلى زمن الأربعينيات، وهو زمن لم يعد متداولًا كثيرًا في الأفلام المصرية الحديثة، فنجح بذلك في كسر النمط السائد، وخلق حالة من الحنين والسحر البصري، حيث الأزياء، والديكور، والأجواء العامة التي تعيدنا لعصر الاحتلال البريطاني والمقاومة الشعبية، وهذا ما منح الفيلم خصوصية، وساهم في جذبه فئات مختلفة من الجمهور، خاصة من يبحثون عن سينما تُروى بروح الحكاية، وتُبنى على شخصيات غير نمطية، كما قدّم نموذجًا لبطل شعبي يتشكّل في الخفاء، ويولد من قلب الفوضى لا من أعالي المثاليات.

وللحق لم أكن أتوقع أن يأتي فيلم «درويش» بهذه النكهة المختلفة التي تمزج بين روح المغامرة والتاريخ والإنسانية في آنٍ واحد.

لكن حين انتهى العرض، وجدتني أمام تجربة سينمائية تستحق التوقف، لا لكونها مليئة بالإثارة فحسب، بل لأنها قدّمت نموذجًا نادرًا لبطل لا يُولد من عظمة ولا يُرسم بهالة مُزيفة، بل يتشكل من رحم الخداع والملاحقات والتحولات النفسية العميقة.

الفيلم يدور في زمن الأربعينيات، حيث الاحتلال البريطاني يسيطر على الشارع المصري، والمقاومة الشعبية تتشكل في الخفاء. وسط هذه الخلفية المُلتهبة، يظهر «درويش» عمرو يوسف لا كبطل تقليدي، بل كلص محترف ينفذ عملية سرقة لصالح عصابته المكونة من زبيدة، وعدلي، ورشدي، ليبدأ من هنا الخيط الدرامي المثير، وما يلفت الانتباه في هذه التجربة هو التحول التدريجي لدرويش من محتال إلى رمز نضالي دون أن يسعى لذلك، فنراه يُسجن، يُخدع، يُطارد، ويُتّهم زورا بجريمة قتل سياسية، ليجد نفسه منبوذًا في لحظة وبطلاً شعبيًا في لحظة أخرى، كأن القدر قرر أن يمنحه دورًا أكبر مما سعى إليه.

وجاء أداء عمرو يوسف متماسكًا، فيه حضور مميز وشخصية مرسومة بتفاصيل إنسانية، لا تخلو من خفة ظل ومهارة لص ذكى. أما دينا الشربيني، فقدمت «زبيدة» بتركيبة تجمع بين الجاذبية والدهاء والولاء، ونجحت في صناعة توازن مع بطل العمل.

أما الكوميديا فجاءت غير مفتعلة، والمغامرة مصقولة بإيقاع جيد، فيما أضفت المطاردات بعدًا سينمائيًا ملهِمًا، يذكّرنا بأفلام الجاسوسية القديمة، لكن بلمسة مصرية خالصة، والجميل أن الفيلم لم يقع في فخ التنظير السياسي، لكنه مرّر الكثير من الرسائل الذكية حول الاحتلال والمقاومة والبطولة الحقيقية، وكأن «درويش» بذكائه الفطري ومكره في الحياة أصبح رمزًا شعبيًا؛ لأن الناس لا يبحثون عن ملائكة بقدر ما يبحثون عمن يشبههم يسقط، يخون، يُخدع، لكنه يعود أقوى، ففي زمن أصبحت فيه الأفلام تتشابه، يظهر «درويش» كفيلم جاد، مختلف، يراهن على مزج عناصر متعددة: الأكشن، الضحك، الحنين، والمقاومة.

نعم، قد لا يكون الفيلم مثاليًا من كل الزوايا، لكن يكفيه أنه لم يُعادِ ذكاء المتفرج، وقدم قصة فيها من الروح ما يكفي لأن تجذبك من أول مشهد حتى النهاية، فيلم «درويش» ليس مجرد إضافة جديدة لقائمة عروض الصيف، بل نموذج لتجربة تحمل روحًا مختلفة، وتعيد التأكيد على أن السينما المصرية لا تزال قادرة على مفاجأتنا حين تتوافر الإرادة والخيال والجدية.

أحد أبرز عناصر التميز في فيلم «درويش» هو الأداء التمثيلي الذي جاء متقنًا وواعيًا بطبيعة المرحلة الزمنية التي تدور فيها الأحداث. عمرو يوسف قدّم شخصية "درويش" بتوازن ذكي بين اللص البارع والبطل الشعبي، دون أن يسقط في فخ المبالغة أو التنميط، بينما جاءت دينا الشربيني في دور "زبيدة" لتمنح الشخصية قوة وجاذبية، مع حضور مفعم بالحيوية، أما تارا عماد أيضًا فقدّمت أداءً ناعمًا يليق بدورها في خط الرومانسية، بينما أضاف مصطفى غريب ومحمد شاهين وخالد كمال خفّة ظل وقوة دعم درامي منحوا بها الفيلم بعدًا إضافيًا في التفاعل الجماعي بين الشخصيات، أما على مستوى الإخراج، فقد نجح وليد الحلفاوي في ضبط الإيقاع العام للفيلم، والتعامل بمهارة مع التناقضات بين الأكشن والكوميديا والرومانسية، دون أن يخلّ بتوازن السرد. برع في استدعاء زمن الأربعينيات من خلال اختيارات بصرية دقيقة واهتمام بتفاصيل المشهد والملابس، ما جعل المتلقي يشعر بأنه داخل تلك المرحلة الزمنية فعلًا، ويحسب للفيلم – بفضل إخراج الحلفاوي وتأليف وسام صبري – أنه لم يعتمد فقط على الفكرة، بل على الحرفة في التنفيذ، ما ساعده في تحقيق تميز ملحوظ بين أفلام الموسم.

وللحق فإن عمرو يوسف يثبت يومًا بعد يوم أنه واحد من أكثر نجوم جيله وعيًا بمسارهم الفني، فهو لا يبحث عن التواجد فقط، بل عن التميز.

مسيرته الفنية خلال السنوات الأخيرة تعكس حالة من النضج والتمهل في اختيار الأدوار حيث أصبح يختار مشروعاته بعناية شديدة، سواء على مستوى السيناريو أو فريق العمل أو توقيت الطرح، في فيلم «درويش»، يواصل يوسف هذا النهج، فيُقدّم شخصية مركبة تمزج بين الذكاء الشعبي والبطولة غير التقليدية، دون أن يفقد خفة ظله أو حضوره الطاغي، وذلك ليس صدفة، بل انعكاسا لحالة تراكمية من الاجتهاد ومحاولة التمرد على النمطية، وهو ما جعله يحتل مكانة فنية خاصة، لا يُمكن تجاهلها في كل موسم سينمائي.

نجاح عمرو يوسف ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لمسيرة تصاعدت بثبات، وكان فيلم «شقو» العام الماضي نقطة تحول مهمة في هذه الرحلة.

فقد قدّم خلاله أداءً ناضجًا، جمع بين التكنيك والأداء الانفعالي، ما جعله يحصد إشادات نقدية وجماهيرية على حد سواء.

واليوم، مع «درويش»، يُثبت أنه لا يكرر نفسه، بل يحرص على تقديم شخصيات جديدة بكل أدواته كممثل واعٍ بما يريده من الفن والجمهور، عمرو يوسف الآن في واحدة من أفضل مراحله الفنية، لا يُغامر من أجل التواجد، بل يتحرك بخطوات مدروسة نحو مزيد من التميز والنجاح.

إنني أعتقد أن فيلم «درويش» ليس مجرد عمل سينمائي يُعرض ضمن موسم صيفي مزدحم بالأفلام، بل هو تجربة فنية متكاملة تعكس بوضوح أن السينما المصرية ما زالت قادرة على تقديم أعمال ذات قيمة وجودة، تُنافس وتُحقق جماهيرية حقيقية دون أن تتنازل عن رسالتها أو هويتها، هذا الفيلم، بمزجه الذكي بين الأكشن والتشويق والكوميديا، وبتوظيفه حقبة الأربعينيات كخلفية درامية جذابة، استطاع أن يُعيد للمشاهد روح المغامرة والبطل الشعبي الذي لا يُولد من فراغ بل من صراع ومعاناة ونضال، وهو ما كان «درويش» نموذجًا له، نجاح الفيلم لا يقتصر على الأداء المتميز لعمرو يوسف ودينا الشربيني وباقي أبطال العمل، بل يتجلى أيضًا في رؤية المخرج وليد الحلفاوي الذي استطاع أن يُقدّم هذه القصة المركبة بسلاسة وذكاء بصري ودرامي، دون أن يفقد الإيقاع أو يُضحّي بالمصداقية.

وبفضل سيناريو محكم من وسام صبري، تحولت القصة من مجرد مغامرة إلى رحلة إنسانية تحمل في طياتها الكثير من الرمزية والانفعالات، فيلم «درويش» هو شاهد على أن السينما المصرية بخير، عندما تتوافر لها عناصر الصدق الفني، والرغبة في التميز، والجرأة في الطرح، وفوق ذلك كله، يُمثل العمل خطوة جديدة ومهمة في مسيرة عمرو يوسف، الذي يبدو أنه قرر أن يلعب أدواره بعقله وقلبه معًا، فحصد بذلك احترام الجمهور، وواصل تثبيت أقدامه كواحد من أكثر نجوم هذا الجيل تأثيرا وحضورا.

الصفحة الثانية عشر من العدد رقم 426 الصادر بتاريخ 28 أغسطس 2025
تم نسخ الرابط