"مستنقع السوشيال ميديا".. طوفان يلوث الوعي ويغرق القيم

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- مهووسو الشهرة يبيعون الشرف ويؤجرون الأخلاق من أجل "لايكات" وأرباح زائفة

- هوس الفلوس  أفسد النفوس.. ودفع الشباب إلى متاهات السقوط الأخلاقي

- التريند.. سلطة غوغائية تسحق المبادئ وتصنع نجوما من الفراغ

- صناعة التفاهة تغزو الشاشات وتسرق العقول في وضح النهار

- "تيك توك".. شيطان العصر الذي يعبث بهوية الأجيال ويشوه الوعي الجمعي

كلما تابعت طوفان ما يبث على السوشيال ميديا، أشعر بدهشة مشوبة بالقلق، كيف تحولت هذه المنصات التي بدأت كنافذة للتعبير والتواصل، إلى مستنقع يفيض بالضجيج، ويخرج لنا "بلوجرز" من كل حدب وصوب، بعضهم بلا موهبة، وبلا رسالة، وأحيانًا بلا وعي أو مسؤولية؟! تساءلت بيني وبين نفسي متى أصبح الطريق إلى الشهرة مفروشا بالفضائح والانحدار؟! ومتى باتت اللافتات الرخيصة أسرع وسيلة للوصول إلى الجمهور، ولو على حساب القيم والمبادئ؟

لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي من مساحة واعدة للتعبير والابتكار، إلى ما يشبه المستنقع الطافح بالنماذج المشوهة التي تتكاثر بلا ضابط، وتمارس تأثيرا خطيرا على وعي الأجيال الشابة، وللحق لم تعد المشكلة في المحتوى الرديء فحسب، بل في غياب الوعي الجمعي بما يحدث، بينما تروج بعض المنصات لأشخاص لا يمتلكون أي موهبة، سوى القدرة على جذب الانتباه بوسائل تافهة أو مثيرة للجدل، بلوجرز من كل اتجاه، فتيات يتاجرن بالصورة والصوت، شباب يركبون موجات "التريند" ولو على حساب كرامتهم، وسرعان ما تنتهي القصة من الشهرة إلى قفص الاتهام.

ولم يكن مستغربا أن تنقلب الشهرة الوهمية إلى قضية رأي عام، سمعنا عن فتيات حكم عليهن بالسجن بسبب محتوى غير لائق، وعن أخريات سحب منهن أطفالهن بعد تصدرهن التريند باستغلال أبنائهن، والنتيجة واحدة انهيار تدريجي في منظومة القيم، السوشيال ميديا اليوم باتت تقود شريحة من شبابنا إلى السجون، وتغري آخرين بالمال السهل والشهرة الزائفة، وتكرس صورة مزيفة عن النجاح، لم نعد نرى نماذج للعلم، أو الابتكار، أو حتى للثقافة، بل صرنا غارقين في زحام من الأصوات المرتفعة، والوجوه المفلترة، والأفكار الملوثة.

هذا التغير السريع والخطير في المحتوى، يجب ألا يقابل بالصمت، نحن في لحظة فارقة، تتطلب منا كأفراد ومجتمع ومؤسسات، أن نعيد النظر فيما نستهلكه، وما نسمح لأبنائنا بمشاهدته، وأن نطالب بتشريعات تنظم هذا الفضاء، وتفصل بين حرية التعبير وحرية الإفساد، إنني أرى أنه آن الأوان لوقفة حقيقية، ليس فقط من الحكومة، بل من كل بيت، فما نراه ليس مجرد تغير ثقافي، بل انجراف نحو الهاوية، إن لم نتداركه الآن، فسندفع ثمنه غاليا لاحقا. 

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه بعد كل قضية بلوجر تنتهي خلف القضبان: من المسؤول؟ هل هم هؤلاء الشباب والفتيات الذين انجرفوا وراء وهم الشهرة؟ أم المنصات التي تفتح الأبواب أمام كل من يمتلك كاميرا و"حساب" مثيرا؟ أم نحن كمجتمع صامت، يستهلك هذا المحتوى، ويمنحه زخمه باللايك والشير والتفاعل؟ الحقيقة أن المسؤولية موزعة، لكننا كأفراد نتحمل جانبا كبيرا منها، التهاون في تربية النشء على المعايير الأخلاقية، والتقصير في تقديم بدائل حقيقية من الإعلام والثقافة، وغياب القدوة المجتمعية، كل هذا ساهم في خلق فراغ أخلاقي ملأه صناع التفاهة بذكاء واستغلال، ما يحدث ليس مجرد انحدار في الذوق العام، بل تآكل في البنية الثقافية والروحية للمجتمع، وعلينا أن نعترف بأن المواجهة لن تكون سهلة أو سريعة، لكنها تبدأ بالاعتراف بخطورة المشهد.

وللحق فإن أحد أخطر المفاهيم التي رسختها السوشيال ميديا هو أن "التريند" أصبح معيارا للنجاح، لم يعد النجاح يقاس بالجهد أو الإبداع أو القيمة، بل بعدد المتابعين، وعدد المشاهدات، وكم التفاعل، حتى لو جاء ذلك على حساب الكرامة، أو الخصوصية، أو حتى الذوق العام، هناك جيل كامل بدأ يربط مستقبله بالشهرة الرقمية، ويرى في البلوجرز نماذج يحتذى بها، نحن أمام خطر حقيقي يتمثل في صناعة قدوة زائفة، تضع ملايين المراهقين على مسار خاطئ، وتفرغ فكرة النجاح من أي مضمون حقيقي، إن التريند لا يصنع فقط من صناع المحتوى، بل من جمهور يغذي هذه الحالة، ولذلك فالمعركة ضد التفاهة لا تبدأ فقط من المشرّع أو القانون، بل من وعي الجمهور ذاته.

وإذا كنا جادين في إنقاذ المجتمع من هذا الطوفان، فعلينا أن نفكر في البدائل، نحتاج إلى منصات رقمية تروج للنماذج الملهمة في العلم والفن والعمل المجتمعي، ونحتاج إلى محتوى مدعوم من الدولة ومؤسسات الثقافة يخاطب الشباب بلغتهم وينافس بقوة، كما أن تعزيز دور الأسرة والمدرسة في التربية الإعلامية الرقمية بات أمرا لا يقبل التأجيل، فالتعامل مع السوشيال ميديا يحتاج إلى مهارات ووعي، لا مجرد تحذيرات تقليدية، وفوق كل ذلك، علينا أن نطالب بمنظومة تشريعية حاسمة، تضع حدودا واضحة بين حرية التعبير واستباحة كل شيء تحت ستار "المحتوى"، فالمجتمع الذي لا يحمي وعيه، سيخسر أجياله القادمة لصالح التفاهة والفوضى.

إنني أعبر عن قلقي العميق على ملامح هذا التغير الاجتماعي المتسارع الذي تقوده منصات السوشيال ميديا دون كوابح، نحن لا نحارب التكنولوجيا، ولا نرفض التعبير، لكننا نواجه انحدارا يفرض علينا أن نعيد طرح السؤال الجوهري: ما الذي نريده فعلا لأبنائنا؟ أي مجتمع نطمح أن نكونه؟ لا يمكن أن نبقى متفرجين بينما تتحول الشهرة إلى غاية، والتفاهة إلى نمط حياة، والانحراف إلى وسيلة للربح. 

لقد آن الأوان لنقف وقفة جادة، ليس فقط لنحاسب من تجاوزوا الخطوط الحمراء، بل لنراجع أنفسنا كمجتمع، ونعيد بناء أولوياتنا، ونستعيد احترام القيم، ونعلم أبناءنا أن النجاح لا يأتي من كاميرا وهشتاج، بل من جهد، وموهبة، وضمير، لا أكتب اليوم من باب السخط، بل من باب المسؤولية، لأن الوطن يستحق أن نصونه لا من العدو الخارجي فقط، بل من التآكل الداخلي الذي يبدأ من شاشة، وينتهي بجيل ضائع.

الصفحة السابعة من العدد رقم 443 الصادر بتاريخ  18 ديسمبر 2025

 

تم نسخ الرابط