"روح أكتوبر" .. صمام الأمان للأجيال الجديدة

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- قصة الإرادة التي صنعت النصر وأعادت لمصر ثقتها بنفسها لتظل منارة للعزة والكرامة

- حين توحّد المصريون خلف هدف واحد فتحقق المستحيل وصارت المعركة رمزًا للوعي والوحدة والتحدي

- كيف تحوّل النصر العسكري إلى منهج حياة يعلّم الأجيال أن العمل والعلم والإيمان طريق عبور جديد

- من خنادق القتال إلى ميادين البناء.. دروس العبور التي يجب أن تُدرّس لكل شاب مصري اليوم

- قيمة خالدة تذكّرنا بأن المعجزات تُصنع بالعزيمة والإصرار لا بالشعارات والصدف

- حين يصبح الإيمان بالوطن سلاحًا والعلم جسرًا للنصر.. تبدأ مصر عبورها الجديد نحو المستقبل

- من وحدة الصف إلى قوة التخطيط.. معاني العبور التي يجب أن نحافظ عليها في معركة الوعي والتنمية

- حين تتجدد الذكرى يتجدد العهد بأن تبقى مصر قوية بروحها لا تُهزم ما دامت إرادتها حية

 حين يهل علينا شهر أكتوبر من كل عام، نُدرك أننا لسنا أمام مجرد ذكرى تاريخية، بل أمام قصة حياة مكتملة الأركان، قصة أمة بأكملها انتفضت لتستعيد كرامتها، وتثبت للعالم أن الإرادة الصلبة يمكنها أن تُحرك الجبال.

لم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة بالسلاح، بل كانت ميلادًا جديدًا لمصر، وروحًا خالدة أُودعت في قلوب أبنائها، لتصبح درسًا خالدًا تتناقله الأجيال.

لقد كان السادس من أكتوبر 1973 يومًا استثنائيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ليس فقط لأننا استعدنا فيه أرضنا الغالية، ولكن لأنه شكَّل لحظة نادرة من وحدة الإرادة والوجدان.

المصريون جميعًا - من جندي في خندقه، إلى فلاح في حقله، إلى عامل في مصنعه، إلى أم تدعو بدموعها – كانوا جبهة واحدة، كتفًا إلى كتف، لا فرق بين موقع وآخر، ولا قيمة لأي فرد إلا بقدر ما يُقدمه لوطنه.

في تلك اللحظة الفاصلة ذاب الفرد في الجماعة، وتجلت المعجزة الكبرى: معجزة الروح.

هذه الروح التي نسميها اليوم "روح أكتوبر" لم تكن مجرد حماس عابر أو انفعال وقتي، بل كانت تجسيدًا لقيم كبرى: الإيمان العميق بالله، الإصرار على الكرامة، الاستعداد للتضحية، والعمل بروح الفريق.

هي القيم التي صنعت النصر، وهي نفسها القيم التي نحن في أمسّ الحاجة إليها اليوم ونحن نواجه تحديات لا تقل خطورة عن تلك التي واجهها جيل العبور.

إن الأجيال الجديدة التي لم تعش تلك اللحظات العظيمة ربما تتساءل: ما معنى روح أكتوبر بالنسبة لنا اليوم؟ والإجابة تكمن في أن روح أكتوبر ليست مقصورة على ميادين القتال، وإنما تمتد إلى كل مجال من مجالات الحياة.

روح أكتوبر تعني أن نؤمن بأن المستحيل يمكن أن يُهزم، وأن الطريق الصعب يمكن اجتيازه بالإصرار والعمل.

تعني أن نعمل معًا، لا كأفراد متفرّقين، بل كجسد واحد، كما فعل أجدادنا يوم رفعوا راية النصر.

حين نتحدث عن غرس روح أكتوبر في نفوس الأجيال الجديدة، فإننا لا نقصد فقط أن نحكي لهم قصص البطولة المجيدة، بل أن نُترجم هذه الروح إلى سلوك يومي. على مقاعد الدراسة، في ميادين العمل، في الأبحاث العلمية، في ساحات الفن والإبداع، وحتى في علاقاتنا الإنسانية.

يجب أن يتعلم الشباب أن التضحية ليست دائمًا بالنفس والدم، بل قد تكون بجهد مضاعف، أو بوقت يُمنح من أجل مصلحة أكبر، أو بفكرة تُسخّر من أجل خدمة الوطن.

روح أكتوبر هي أيضًا درس في الإيمان بالعلم والتخطيط.

لقد عبر الجندي المصري قناة السويس لا باندفاع عاطفي فقط، بل بذكاء عسكري مدهش، وحسابات دقيقة، وتوظيف لكل إمكانات العصر.

من هنا نستطيع أن نقول إن أكبر إحياء لتلك الروح اليوم هو أن نغرس في شبابنا قيمة العلم، وأن نعلمهم أن المعرفة هي سلاح العصر الحديث، وأن الاجتهاد والإبداع هما طريق المستقبل.

إن مصر التي صنعت معجزة أكتوبر قادرة اليوم على أن تصنع معجزات أخرى إذا ما تمسكنا بهذه الروح.

لكن المسؤولية لا تقع على الدولة وحدها، بل على كل أسرة، وكل معلم، وكل مؤسسة.

حين تحكي الأم لطفلها عن جندي عبر القناة ليعيد الأرض، وحين يخصص المعلم جزءًا من درسه ليزرع في طلابه معنى العزيمة والإصرار، وحين يُنتج الإعلام محتوى يُعيد للأذهان قيم الوحدة والتضحية – عندها فقط نكون قد أحيينا روح أكتوبر بحق.

ما أحوجنا اليوم إلى أن نستعيد هذه الروح في مواجهة التحديات الجديدة.

صحيح أن ميادين المعارك قد تغيرت، لكن جوهرها واحد: معركة من أجل البقاء والكرامة والازدهار.

اليوم نخوض معركة ضد الجهل، وضد التشتت، وضد الاستسلام لليأس.

نخوض معركة من أجل بناء وطن قوي حديث، يستطيع أن يحجز لنفسه مكانًا بين الأمم المتقدمة.

ولن ننتصر في هذه المعركة إلا إذا استدعينا نفس الروح التي عبرت بنا قناة السويس: روح الإيمان والعمل والتكاتف.

إنني على يقين أن الجيل الجديد قادر على حمل هذه الأمانة، فقط إذا وجد من يُحفزه ويُلهمه.

ولعلنا هنا نحتاج إلى خطاب وطني صادق يصل إلى عقول الشباب وقلوبهم معًا، لا خطاب شعاراتي جاف، بل خطاب إنساني يذكرهم بأنهم امتداد لأبطال عبروا من الهزيمة إلى النصر، وأن في عروقهم نفس الدم الذي سال يومًا على ضفاف القناة دفاعًا عن الأرض والكرامة.

إن روح أكتوبر باقية ما بقيت مصر، ولكن علينا أن نُبقيها متوهجة.

علينا أن نرويها بالوعي، بالعلم، بالثقافة، بالعمل الجماعي، وبالإيمان بأن الوطن يستحق.

وحين نفعل ذلك، سنكون قد وفينا بالعهد لمن رحلوا، وقدمنا لأبنائنا البوصلة التي تهديهم وسط عواصف الحياة.

وفي النهاية، أقول إن أكتوبر لم يكن يومًا للتاريخ فقط، بل هو يوم للمستقبل.

هو ذكرى تعيدنا دائمًا إلى أصل الحكاية: أن مصر لا تُهزم ما دامت روحها حية.

وأن هذه الروح – روح أكتوبر – هي أعظم وصية يجب أن نُسلمها للأجيال القادمة، لتظل مصر دائمًا قادرة على العبور إلى الغد، مهما كانت التحديات.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 433 الصادر بتاريخ  9 أكتوبر 2025
تم نسخ الرابط