التسامح "نعمة" لا يملكها إلا الأقوياء

- ضجيج المقارنات سرق سكينة القلوب.. والنفوس افتقدت نعمة الرضا
- "المحبة" القوة الهادئة التي ترمم القلوب وتمنح الحياة روحها النقية
- الجشع.. العدو الخفي الذي يطفئ نور التسامح ويشوه صفاء القلوب
- التسامح والرضا والمحبة.. ثلاثية الإنسانية الحقيقية
كنت قد تناولت في مقالي السابق قضية الحسد وما يحمله من سواد داخلي يأكل صاحبه قبل أن يمسّ غيره، وقلت وقتها إن الحسد نار تأكل قلب الحاسد، وها أنا أعود اليوم لأستكمل المشهد من الجهة الأخرى المضيئة للحياة، حيث التسامح، والرضا، والمحبة، تلك القيم الرفيعة التي لو سكنت قلوبنا لاستقامت النفس وهدأت الأرواح، وسادت الإنسانية.
وللحق فإن الإنسان السوي السليم لا يطيل التحديق فيما يملكه غيره، بل ينظر إلى ما بين يديه برضا، ويحمد الله على ما قسم له، هو ذاك الذي لا يحمل في قلبه غلًا ولا ضغينة، ولا يبيت ليله متخفيا خلف أمنيات شريرة للآخرين، بل يرى الخير للناس كما يراه لنفسه، ويتجاوز الإساءة لأنه يدرك أن الضعفاء فقط هم من يحملون الحقد، بينما الأقوياء يغفرون، فالتسامح ليس ضعفا كما يظنه البعض، بل قوة داخلية لا يمتلكها إلا من تجرد من الأنا والانتقام، أن تسامح يعني أنك اخترت السلام، لا الحرب، وأنك ارتقيت فوق الألم، لا أنك تجاهلته.
أما الرضا، فهو أرقى درجات الطمأنينة أن ترضى لا يعني أن تكتفي بالقليل، بل أن تؤمن بأن ما لديك الآن هو خير أرسله الله لحكمة لا تراها في لحظتك.
وبما أننا في عالم باتت الضغينة هي الوقود، والمقارنة أسلوب حياة، نحتاج لوقفة حقيقية مع أنفسنا.
نحتاج أن نسأل: أين ذهبت المحبة؟ أين ذهب ذاك الشعور الذي يجعلنا نفرح لفرح غيرنا دون أن نتساءل: "ليه مش أنا؟"، فالمحبة لا تصطنع، والتسامح لا يفرض، والرضا لا يشترى، كلها تبدأ من الداخل، ولهذا أقول: دعونا نربي أبناءنا على أن يحبوا قبل أن يحكموا، وأن يرضوا قبل أن يطمعوا، وأن يسامحوا قبل أن يحاسِبوا، نعم، في التسامح شفاء، وفي الرضا راحة، وفي المحبة خلاصٌ من كل ما يعكر صفو الروح، تلك هي الوصفة التي تمنح الإنسان قلبًا سليمًا، ووجهًا نقيًا، وحياةً لا تثقلها الكراهية، فمن عاش بقلب متسامح، ونفس راضية، ومحبة صافية، فقد امتلك كنزًا لا يقارن.
أحيانا أقف أمام مشاهد الحياة اليومية وأتساءل: لماذا أصبح الناس أكثر توترا، أكثر صخبا، أكثر قسوة، ثم أتأمل قليلًا فأجد أن القلوب امتلأت بضجيج المقارنات، والأنفس افتقدت نعمة الرضا، والعلاقات صارت مشحونة بخيبات غير مبررة. ولولا تلك القلوب التي ما زالت تنبض بالمحبة، وما زال فيها متسع للتسامح، لكنا نعيش في غابة لا يرحم فيها أحد أحدا.
لقد أصبحت أؤمن بأن التسامح هو هدية تقدمها لنفسك قبل أن تمنحها لغيرك، فحين تعفو، فإنك تتحرر من ثقل الغضب، تنقذ قلبك من الاحتراق البطيء، وتمنح نفسك فرصة للبدء من جديد دون حمولات ماض موجعة، أما الرضا، فهو حالة من التصالح العميق مع القدر، أن ترى في كل ما يحدث لك معنى، وفي كل تأخير حكمة، وفي كل فقدان مساحة للنمو، لا نهاية، وكم من مرة رأينا أشخاصًا يعيشون بالقليل، لكنهم أكثر سعادة ممن يمتلكون الكثير لأنهم فقط راضون، والمحبة، هي أعظم ما يمكن أن يحمله الإنسان في قلبه.، أن تحب الناس بصدق، دون انتظار مقابل، أن تتمنى الخير لهم، أن تبتسم ولو لم تكن مضطرا، أن تحتضن من يحتاجك حتى لو كنت متعبا، هذا هو المعنى الحقيقي للإنسانية.
المحبة لا تُعلّم في الكتب، بل تورث بالمواقف، وتُربَّى في البيوت، ففى زمن ترفع فيه شعارات النجاح والتفوق والمنافسة، ليتنا نرفع شعارا أسمى: "كن إنسانا أولا"، والإنسان لا يُقاس بدرجاته أو ماله أو عدد متابعيه بل بقلبه، بلطفه، وبقدرته على أن يحب ويُسامح ويرضى.
نحن شئنا أم أبينا نعيش صراعًا طويلًا مع وهمٍ كبيرٍ صنعناه بأيدينا، وصدّقناه حتى أغرقنا فيه طواعية، وهم اسمه "الحياة"، نركض كل يوم وراء نجاحات لا نعرف إن كانت لنا، نخاف من الفشل، ونرتعب من الفقد، ونُسرف في التعلق، وكأننا خُلقنا لنخلد. نُخطط للغد وكأن الغد موعود لنا، نرتب تفاصيل مستقبل لا نملك منه لحظة واحدة.
نتصارع على المال، على الفرص، على الوجاهة، على الظهور، وكلنا ننسى، أو ربما نتناسى، أن الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذه الدنيا، هي "الموت"، نعم، الموت هو النقطة النهائية التي لا يتجاوزها أحد، الحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان، لكنها مع ذلك أكثر ما نتهرب من التفكير فيه، كل ما نملكه الآن، وكل من نحبهم، وكل ما نتشبث به بشراسة، سيفنى، وسنترك وحدنا أمام مرآة الحقيقة المجردة، فكم من أناس عاشوا معنا، ثم غابوا فجأة، وأخذوا معهم ضجيجهم وصمتهم وأحلامهم ومخاوفهم.
ومع كل وداع، تُهمس الحقيقة في آذاننا من جديد: هذه الحياة مؤقتة، والزمن لا يؤجر.
ووسط هذا الزخم، لا بأس أن نُهدئ خطواتنا قليلًا، أن نُعيد ترتيب أولوياتنا، أن نحيا بحكمة لا بهلع، أن نمنح المحبة دون شروط، ونسامح دون انتظار، ونرضى بما قسمه الله، لعلنا بذلك نربح ما هو أثمن من كل ما نلهث خلفه: طمأنينة القلب وسكينة الرحيل.
فى النهاية بين يدي كلمات أثقل من أن تقال بخفة، لأنها تنتمي إلى المساحات العميقة في داخل كل منا تلك المساحات التي نغلق عليها أبواب الحياة اليومية، ونسكتها بصخب التزاماتنا وسباقنا المحموم نحو المجهول، لكن في لحظة تأمل صادقة، ندرك أننا فعلا نعيش خدعة كبرى اسمها الحياة، خدعة صنعناها، أحببناها، وتعلقنا بها، دون أن نملك السيطرة عليها أو على نهايتها، نرهق أنفسنا في الصراع على ما لا يدوم، وننسى أن كل ما نلهث خلفه مجرد "زينة حياة" لن ترافقنا في لحظة الرحيل نؤجل السعادة، نكبت المشاعر، نحقد، نحسد، نتخاصم، نُخطئ ونعاند، وكأن لدينا متسعًا أبديًا لنُصحح، بينما الحقيقة تؤكد دومًا أن الموت لا يستأذن، ولا يُمهل، ولا ينتظرنا حتى نرتّب فوضانا الداخلية، وما بين وهم نعيشه، وحقيقة نخشاها لا نملك إلا أن نُعيد لأنفسنا توازنها، أن نُطهر قلوبنا من الكراهية، أن نمارس التسامح لا ضعفًا، بل نُضجًا، والمحبة لا رياءً، بل إنسانية، والرضا لا استسلامًا، بل وعيًا عميقًا بحكمة الله في كل شيء ، فلنخفف وطأة التعلّق، ولننظر إلى ما نملك بامتنان، وإلى من حولنا بعين الرأفة، ولنجعل في قلوبنا مساحة للسلام الداخلي، فهو الزاد الوحيد الذي قد يُرافقنا في رحلتنا الأخيرة، إن الموت، رغم قسوته، هو أعظم مذكر، لا ليبث فينا الرعب، بل ليوقظ وعينا بأن الحياة أثمن من أن نُهدرها في حقد أو حسد أو جشع أو فراغ، فلنُحسن عيشها ما دمنا فيها، ولنجعلها أخفّ على أرواحنا، وأكثر صدقًا مع أنفسنا فالرحيل حتمي لكن كيف نعيش حتى نرحل؟ هذا هو السؤال الحقيقي.
