سينما الصيف تنتفض

- دور العرض تستقبل أفلاما جديدة.. والإيرادات تصل لـ150 مليون جنيه
- أحمد السقا يحاول استرداد بريقه السينمائي الغائب وينافس بقوة في شباك التذاكر
- دنيا سمير غانم تبتعد عن الهزل السطحي وتنضج فنيا في "روكي الغلابة"
- التوليفة الشعبية تضع فيلم "الشاطر" في المركز الثاني بإيرادات الموسم الصيفي
كنت أتابع عن كثب ما يحدث على الساحة السينمائية، وأتساءل في صمت: هل عادت السينما المصرية أخيرا إلى النبض؟ فجأة، وجدت نفسي أردد: "سينما الصيف تنتفض"، وهذا ليس مجرد عنوان، بل تلخيص لحالة طال انتظارها، بعد وجود مواسم خجولة وأفلام تعد على أصابع اليد، جاء موسم صيف 2025 كعود ثقاب يشعل شباك التذاكر ويحرك الماء الراكد، شيئا ما، حتى وإن كانت الأفلام قليلة نسبيا لكن مازال الموسم طويلا وبداياته مبشرة، فقد عاد الجمهور إلى دور العرض، لا لمجرد التسلية، بل بشغف حقيقي، عادوا كأنهم يستعيدون علاقة قديمة مع الفن السابع، الأفلام تتوالى، والنجوم يتبارزون على شاشة واحدة، والأرقام تتكلم بلغة لا تقبل التشكيك.
واللافت للنظر أن الانتفاضة جاءت بعد موسم باهت في عيد الأضحى، لم يشهد سوى عرض فيلمين فقط، في مفارقة جعلت صيف 2025 وكأنه الرد العملي على خمول الموسم السابق، ومع تخطي الإيرادات حاجز الـ150 مليون جنيه، بدا أن صالات السينما استعادت جمهورها، من جديد بعد فترة من التأجيلات، والمخاوف، والتحفظ الإنتاجي.
وحتى الآن يتصدر المشهد الفنان أحمد السقا، الذي قدم هذا الصيف فيلمه "أحمد وأحمد" بمشاركة الفنان أحمد فهمي، في ثنائية فنية جمعت بين الكوميديا والأكشن، والفيلم لاقى ترحيبا جماهيريا، وحقق إيرادات قوية خلال أيام عرضه الأولى، حتى بلغت 60 مليون جنيه ومازال الفيلم يعرض في دور العرض إلى الآن محققا إيرادات، ولطالما عرف السقا بقدرته على جذب شباك التذاكر، بدا وكأنه يسترد جزءا من بريقه الغائب، بعد مواسم لم تكن على نفس القدر من التأثير، ولعل الرهان في هذا الفيلم كان على الكيمياء بين بطلي العمل، والكتابة الخفيفة التي لامست الشارع المصري، مع تنفيذ إنتاجي احترافي أعاد للأذهان أفلام الأكشن ذات الطابع الشعبي الراقي، وتدور أحداث فيلم "أحمد وأحمد" حول أحمد الذي يعود إلى مصر بعد سنوات من الغربة، ويقرر الاستقرار فيها، لكن خططه تتعطل عندما يتعرض عمه، أحمد أيضًا، لحادث يفقده الذاكرة، يكتشف أحمد أن عمه متورط في عالم الجريمة، ويجب عليه مساعدته في استعادة ذاكرته وكشف ماضيه، مع مواجهة أعداء خطيرين، والفيلم يمزج بين الكوميديا والأكشن، مع مشاهد مليئة بالمغامرات.
وعلى الجانب الآخر، يخوض الفنان أمير كرارة المنافسة بفيلمه "الشاطر"، والذي نال نصيبا وافرا من انتقادات النقاد، بسبب ما وصفوه بـ"الاعتماد الزائد على الفورمات الجاهزة"، إلا أن الجمهور كان له رأي آخر، حيث تجاوزت إيرادات الفيلم حاجز الـ50 مليون جنيه، ليؤكد أن شباك التذاكر لا يخضع دائمًا للمنطق النقدي، فالفنان أمير كرارة، الذي يعد من نجوم الأكشن المعاصرين، اعتمد في الفيلم على توليفة جماهيرية تستهدف جمهور الإثارة والتشويق، مع حبكة تجارية بامتياز، وهو ما يبدو أنه الرهان الرابح في هذا الموسم، وتبدأ أحداث الفيلم مع خروج "أدهم" الذي يُجسد شخصيته أمير كرارة، في رحلة من المغامرة والكوميديا، للبحث عن شقيقه، مستعينًا بصديقه "فتوح" الذي يُجسد شخصيته الفنان مصطفى غريب، وخلال وجودهما في تركيا يتعرف على "كارمن" التي تُجسدها الفنانة هنا الزاهد، لتغير حياته رأسًا على عقب بسبب تلك العلاقة ويخوضان رحلة مليئة بالمطاردات والمواقف الكوميدية، وفيلم "الشاطر" من تأليف أحمد الجندي وكريم يوسف، وأشرف نصر، وسامح جمال، وإخراج أحمد الجندي وبطولة أمير كرارة، هنا الزاهد، عادل كرم، مصطفى غريب، أحمد عصام السيد.
والمفاجأة الحقيقية جاءت من دنيا سمير غانم، التي اختارت أن تعود للساحة بفيلم مختلف تماما، تحت عنوان "روكي الغلابة"، الذي حمل طابعا إنسانيا وكوميديا معا، واستلهمت فكرته من أفلام النضال الشعبي بلمسة ساخرة، وعلى الرغم من أن دنيا ظلت بعيدة عن السينما لفترة، فإن عودتها هذا العام جاءت مختلفة وأكثر نضجا فنيا، حيث بدا أن العمل لا يراهن فقط على اسمها، بل على مضمون قوي وإخراج محكم جذب فئات واسعة من الجمهور، خاصة العائلات، وتدور أحداث الفيلم حول فتاة قادمة من بيئة ريفية بسيطة، تدخل عالم الملاكمة وتجد نفسها مكلفة بحراسة أحد الأطباء الذى تحاك حوله المخاطر يلعب دوره محمد ممدوح فتحاول التعايش مع العالم الجديد الذي دخلت فيه، فتواجه العديد من المواقف والمفارقات الكوميدية وفي نفس الوقت ستدخل في قصة حب مع الطبيب.
وبعيدا عن الأرقام، فإن ما يميز موسم صيف 2025 هو حالة الحراك السينمائي التي فرضت نفسها بقوة على الساحة، فقد أصبح لكل فيلم جمهوره، ولكل نجم من النجوم الكبار تحدّ شخصي لاستعادة البريق، أو تأكيد الحضور، أو حتى كسر الصورة النمطية، وعاد الإنتاج السينمائي ليؤكد نفسه كمجال استثماري حقيقي، بدلاً من أن يكون مجرد رهان عاطفي على حنين قديم، شركات الإنتاج باتت أكثر جرأة، والمخرجون الشباب يظهرون أكثر فأكثر في صدارة المشهد، بينما تعود بعض دور العرض للعمل بكامل طاقتها بعد فترات من الإغلاق أو التحجيم، ولعل ما يمكن رصده من صيف 2025، أن الجمهور لا يزال متعطشًا للسينما، شريطة أن يجد فيها نفسه وقضاياه، وضحكته وهمومه، لا يكفي أن يكون الفيلم "ضخم الإنتاج" أو من بطولة نجم شهير، بل أن يحمل نبضا حقيقيا يلامس وجدان المشاهد، وإذا استمرت هذه الصحوة، فإننا على أعتاب موسم خريف وشتاء أكثر سخونة، وربما تعود السينما المصرية لمكانتها الطبيعية كواحدة من أبرز أدوات القوى الناعمة في المنطقة.
وهكذا، لا يبدو موسم صيف 2025 مجرد محطة عابرة في تاريخ السينما المصرية، بل هو نقطة تحول حقيقية أعادت إلى الساحة شيئا من هيبتها وحرارتها المفقودة.
فمن قلب الأزمات، خرجت الصناعة تتنفس من جديد، مدفوعة بطاقة جماهيرية هائلة، وحنين دفين لدى الناس للعودة إلى القاعات، والجلوس في ظلمة السينما منتظرين لحظة دهشة أو مشهدا صادقا يهز الوجدان.
لقد أثبت هذا الموسم أن السينما لا تختصر في ترند أو هاشتاج أو فيديو سريع الانتشار، بل في عمل فني حقيقي يصنع تأثيرا ويمتلك سببا للبقاء، وأظهرت المنافسة أن النجم لا يقاس فقط بعدد المتابعين، بل بقدرته على الإقناع، على ملء الشاشة بالحضور، وعلى دفع الناس لقطع تذكرة والدخول بفضول، صحيح أن الطريق لا يزال طويلاً، وأن ثمة تحديات إنتاجية وتسويقية وفنية أمام السينما المصرية، غير أن الأمل بدأ يشرق من جديد على شاشاتنا الفضية، وبينما يتنافس السقا وكرارة ودنيا في صالات العرض، يتنافس خلفهم جمهور من الحالمين، من المخرجين والممثلين والكتاب، على إعادة بناء الحلم، وإذا كان هذا الصيف قد قدّم الدليل على أن الفن الجيد لا يهزم، فإن السينما المصرية تستحق الآن دفعة أكبر، وخططا أوضح، وإرادة أقوى من الجميع صناعا ومؤسسات وجمهورا. فقد آن الأوان أن نكف عن انتظار "المعجزة"، وأن نصنعها بفيلم واحد صادق، بمشهد واحد مؤثر، بجملة حقيقية تهز القلب.
إننا لا نشهد انتفاضة موسم فقط، بل بداية استعادة أمجاد زمن كانت فيه السينما لسان حال الناس ومرايا أرواحهم... وهذا وحده، كفيل بأن يجعلنا نرفع القبعة لهذا الموسم، وننتظر القادم بشغف أكبر، فالسينما، حين تنتفض حقا لا تقاوَم.
