محمد فودة يكتب عن مرض العصر: "التنمر".. حين يطفو عفن النفوس على السطح

- جريمة أخلاقية مكتملة الأركان وليس حرية تعبير
- احذروا.. السوشيال ميديا مصانع مفتوحة للكراهية والتنمر والإفساد المجتمعي
- ارفقوا بالناس... مواقع التواصل تحولت إلى مستنقعات للسخرية والتحقير
- يجب فورا الوقوف في وجه آفة التنمر وتفعيل دور الرقابة على وسائل التواصل
لم يعد التنمر مجرد تصرفات هامشية تصدر عن فئة مراهقة أو أشخاص غير ناضجين، بل تحول الامر إلى مرآة قبيحة تعكس انحدارا أخلاقيا خطيرا في بعض شرائح المجتمع، وفى نظرى اعتبره عفنًا نفسيًا متخمًا بالجهل، يتسرب من نفوس مريضة لم تتربّ على الرحمة، ولا تدرك أثر كلماتها إلا بعد فوات الأوان، ولعل المتنمرون، الذين يختبئون خلف شاشات الهواتف، ليسوا أبطالًا ولا أصحاب رأي حر، بل هم جبناء بائسون يفرغون عقدهم على الآخرين دون شفقة أو أدنى إحساس بالمسؤولية.
إننى أؤمن أن من يسخر من الآخرين، ويضحك على معاناتهم، ويطلق التعليقات المهينة ليرضي غروره السقيم، لا يستحق أن يوصف إلا بأنه فاقد للإنسانية، معاق أخلاقيًا، ومصاب بمرض روحي لا يرجى شفاؤه إلا بمواجهة مجتمعية صارمة، فالتنمر لا يجمل بعبارات مثل "حرية التعبير" أو "مجرد مزاح"، بل هو جريمة أخلاقية متكاملة، تُشبه السمّ الذي يُحقن ببطء في وعي الناس حتى يموت أحدهم دون أن يُدرك الآخرون أنهم القاتلون الحقيقيون.
وفي مشهد مؤلم يعكس الوجه القاتم للتنمر الإلكتروني، رحل عن عالمنا صانع المحتوى المصري شريف نصار، المعروف على منصة "تيك توك"، إثر أزمة قلبية مفاجئة، بعد تعرضه لحملة شرسة من السخرية والتنمر عبر الإنترنت، كان نصار، الذي اشتهر بإلقاء الشعر وتقديم النصائح بأسلوب تمثيلي، قد واجه انتقادات لاذعة من بعض المتابعين الذين لم يتقبلوا طريقته، مما أدى إلى تعرضه لموجة من التعليقات السلبية والاستهزاء، إن خطورة التنمر لا تكمن فقط في الأذى المباشر الذي يصيب الضحية، بل في التبعات الممتدة لهذا الأذى على المجتمع بأسره، فحين يشعر الفرد بأنه مهدد في كرامته أو مستهدف في شخصه، يفقد ثقته بنفسه وبمن حوله، ويبدأ في الانسحاب من دوائر التفاعل الاجتماعي، مما يخلق فجوات نفسية واجتماعية يصعب ردمها لاحقًا. وهذا ينعكس سلبًا على معدلات الإنتاجية، ويزيد من حدة التوتر والعنف داخل المجتمعات، فتضعف الروابط الإنسانية ويترسخ الانقسام.
إننى أرى أنه من واجبنا أن نقف صفا واحدا في وجه هذه الآفة، لا بالاستهجان اللفظي فحسب، بل بالمبادرات الفعلية، وتفعيل الرقابة على وسائل التواصل، وفتح قنوات الدعم النفسي، وتشجيع الضحايا على الحديث دون خوف أو خجل، فالسكوت على التنمر مشاركة غير مباشرة فيه، وإن بناء مجتمعٍ سليم يبدأ بإعلاء قيم الرحمة والعدل، ومقاومة كل ما من شأنه أن يزرع الكراهية بين أبنائه، وهكذا، لا يُمكن اعتبار التنمر مجرد سلوك فردي عابر أو نزوة وقتية تندرج تحت حرية التعبير، بل هو جريمة مكتملة الأركان، تترك ندوبًا غائرة في نفوس ضحاياها، وتُهدد الاستقرار المجتمعي وتفسد نبل العلاقات الإنسانية.
أصبح من الضرورة إعادة بناء خطابنا المجتمعي على أسس من الاحترام والتعاطف، وتربية الأجيال الجديدة على قيمة الكلمة وأثرها، وتغليب مشاعر الرحمة على لذة التجريح، فكل ضحكة على حساب الآخر قد تكون آخر ما يتحمله قلب أنهكه التعب، فليكن في موت شريف نصار عبرة، وفي حياته رسالة، تدعونا جميعًا لأن نعيد التفكير في الطريقة التي نتفاعل بها مع الآخرين.