الإستراتيجية الوطنية للسلامة والصحة المهنية.. رهان الدولة على الإنسان المنتج

- هناك قناعة عميقة لدى القيادة السياسية بأهمية تطوير منظومة العمل ككل
- تحسين كل الآليات والإجراءات التي تمنع وقوع الحوادث الجسيمة أو انتشار الأمراض المهنية
- احترام معايير العمل الدولية التي تضمن للإنسان كرامته وسلامته دون أن تتصادم مع متطلبات الإنتاج والتطور الاقتصادي
- مصر لم تغفل أبدًا عن أصحاب العمل أو العمالة غير المنتظمة أو حتى أصحاب الصناعات الصغيرة
- رسالة طمأنينة للمستثمرين المحليين والأجانب بأن مصر جادة في تطوير بنيتها التشريعية والعملية
- الدولة قادرة على الوفاء بمتطلبات السوق العالمية خاصة فيما يتعلق بمواصفات التصدير والسلامة والجودة الشاملة
- الدول التي تعتني بسلامة الإنسان في مواقع العمل هي وحدها التي تستحق أن تكون في مصاف الدول المتقدمة
كنت وما زلت على قناعة تامة بأن كل أمة تتقدم أو تتأخر بقدر ما تضع من قيمة للإنسان، خاصة الإنسان العامل، الذي يحمل على عاتقه كل تفاصيل التنمية ويحمل روحه فوق كفّه، من أجل لقمة عيش كريمة ومستقبل أفضل لوطنه وأسرته.
وعندما نستعرض ما أعلنته وزارة العمل مؤخرًا عن قرب إطلاق الإستراتيجية الوطنية للسلامة والصحة المهنية، ندرك جميعًا أن مصر تتحرك الآن بخطوات واعية ومدروسة في طريقٍ جديد يضع الإنسان –أيًا كان موقعه في منظومة العمل– في صدارة المشهد الوطني، ويفتح أمامه أفقًا أكثر أمنًا واستقرارًا لمزاولة عمله، دون خوف أو قلق من تهديد قد يطال حياته أو يعكر صفو إنتاجه اليومي.
في تقديري الشخصي، إن هذا الإعلان لم يأتِ صدفة أو تحت ضغوط عابرة، بل هو نتاج قناعة عميقة لدى القيادة السياسية بأهمية تطوير منظومة العمل ككل، بدءًا من التشريعات ووصولاً إلى الوعي والسلوك الجمعي داخل أماكن العمل.
فقد كانت توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي واضحة وصريحة في احتفالية عيد العمال مايو 2024، حين طالب بإعداد خطة وطنية شاملة تضمن تحقيق اشتراطات السلامة والصحة المهنية ونشر ثقافتها في كل مواقع العمل والإنتاج، حمايةً للعمال، وصونًا لأصحاب الأعمال، وحفاظًا على جمهور المواطنين الذين يتعاملون بشكل أو بآخر مع كل ما تنتجه الأيادي المصرية في المصانع والشركات وورش الإنتاج.
اللافت للنظر أن الإستراتيجية الوطنية التي بصدد الإطلاق لم تكتفِ بمجرد استعراض بنود أو شعارات براقة، بل جاءت لتخاطب الواقع الفعلي بعمق وشمولية.
فهي تسعى من ناحية إلى تحسين كل الآليات والإجراءات التي تمنع وقوع الحوادث الجسيمة أو انتشار الأمراض المهنية، وتستهدف من ناحية أخرى دراسة التأثيرات المعاصرة، كالتغيرات المناخية التي أصبح لها دور ملموس في طبيعة بيئة العمل، خاصة في الصناعات التي تعتمد على العمل الميداني أو التعرض المباشر لعوامل الطقس والحرارة والغبار والكيماويات.
ذلك كله في إطارٍ من احترام معايير العمل الدولية التي تضمن للإنسان كرامته وسلامته، دون أن تتصادم مع متطلبات الإنتاج والتطور الاقتصادي.
وفي ظل المتغيرات المتلاحقة على الساحة العالمية، نجد أن مصر لم تغفل أبدًا عن أصحاب العمل أو العمالة غير المنتظمة أو حتى أصحاب الصناعات الصغيرة، بل وضعتهم في قلب الإستراتيجية، باعتبارهم الحلقة الأكثر هشاشة والأكثر احتياجًا للرعاية والدعم.
إن إدماج هذه الفئات في خطط التوعية والرقابة والتدريب يمثل في حد ذاته ثورة اجتماعية جديدة، تنطلق من فكرة أن الأمان الوظيفي لا يجب أن يكون حكرًا على العاملين في القطاعات الرسمية أو الشركات الكبرى فقط، بل هو حق أصيل لكل من يسهم في عجلة الإنتاج الوطني، بغض النظر عن حجمه أو طبيعة عقده.
وأقف طويلًا أمام البعد الإنساني في الإستراتيجية، والذي يتجسد في الاهتمام بمخاطر العنف والتحرش ضد المرأة في بيئة العمل، وتفعيل إجراءات حماية الطفولة بمنع عمل الأطفال أو الحد منه وفق القانون، مع توفير كل السبل لمراقبة ذلك وتدريب الأجهزة الرقابية على رصد أي انتهاك لهذه الحقوق.
لقد كانت مثل هذه القضايا لعقود طويلة من المحظورات المسكوت عنها أو المسائل التي يُتعامل معها على استحياء في أروقة المصانع والشركات، لكن الدولة اليوم تُعلن بوضوح أن الحماية تشمل الجميع وأن الكرامة الإنسانية ليست قابلة للتجزئة، وأن العدالة في فرص العمل والأمان المهني هي القاعدة وليس الاستثناء.
ولا شك في أن ثقافة السلامة والصحة المهنية ليست مجرد أوراق تُملأ أو استمارات توزع، بل هي منظومة متكاملة تبدأ من الإيمان بقيمة الإنسان وتستمر عبر تدريب أصحاب الأعمال أنفسهم والعاملين معهم على أحدث معايير الوقاية والجاهزية، حتى في ظل ظروف الطوارئ أو الأزمات الصحية العامة، مثلما شهدنا جميعًا في جائحة كورونا وما فرضته من تحديات غير مسبوقة على سوق العمل المحلي والعالمي.
وهنا يظهر الدور المحوري للندوات والدورات التدريبية وورش العمل التي أعلنت الوزارة عن تبنيها، والتي ستتوزع على مدار العام في كل محافظات الجمهورية، ليبقى باب المعرفة والتوعية مفتوحًا أمام الجميع، بلا استثناء أو تمييز.
لعل من أهم ما يميز هذه الإستراتيجية هو إدراكها قوة المبادرات المجتمعية وحملات التوعية الرقمية، فلم يعد الإعلام التقليدي وحده كافيًا لنشر ثقافة جديدة بين ملايين العمال وأصحاب العمل.
فمبادرات مثل "سلامتك تهمنا" التي انطلقت بقوة بين المنشآت والقطاعات المختلفة، وحملة "اعرف واحمي نفسك" التي تجوب وسائل التواصل الاجتماعي، والملتقيات الشهرية التي تجمع أجهزة السلامة والصحة المهنية على طاولة واحدة للنقاش وتبادل الخبرات، كلها تصنع حالة من التغيير التدريجي في وعي الأفراد والمؤسسات معًا.
وهذه المبادرات، رغم بساطتها الظاهرية، تترك أثرًا عميقًا يتجاوز حدود الورش والمصانع، ليصل إلى بيوت المصريين جميعًا، ويعيد بناء الصورة الذهنية للعامل المنتج، ليس فقط كعنصر اقتصادي، بل كقيمة إنسانية تستحق الرعاية والحماية.
ورغم أن الطريق مازال طويلًا أمام تحقيق كل أهداف الإستراتيجية، فإنني أرى أن هذا التوجه الجديد يفتح الباب على مصراعيه لمناخ استثماري أكثر استقرارًا وجاذبية، ويمنح المستثمرين المحليين والأجانب رسالة طمأنينة بأن مصر جادة في تطوير بنيتها التشريعية والعملية، وأنها قادرة على الوفاء بمتطلبات السوق العالمية، خاصة فيما يتعلق بمواصفات التصدير والسلامة والجودة الشاملة.
فالدول التي تعتني بسلامة الإنسان في مواقع العمل هي وحدها التي تستحق أن تكون في مصاف الدول المتقدمة، ليس فقط من حيث الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، بل من حيث احترامها لأبسط حقوق مواطنيها.
لقد توقفت طويلًا أمام فكرة أن الإستراتيجية لا تكتفي بالاستجابة للمعايير الدولية، بل تسعى لخلق نموذج وطني يُراعي خصوصية الواقع المصري، ويحترم ظروف العمل المحلية دون إخلال بجوهر السلامة أو الحد الأدنى من الحماية.
فهناك دائمًا تفاصيل دقيقة لا يعرفها إلا أبناء المكان، سواء في الريف أو الحضر، في مصانع الأسمنت أو في ورش الأثاث أو في مزارع الإنتاج الحيواني.
وهذه التفاصيل وحدها هي التي تصنع الفارق بين إستراتيجية تُنفذ على الورق فقط، وإستراتيجية تعيش في وجدان العامل المصري وتتحول مع الوقت إلى جزء من وعيه وسلوكه اليومي.
ولا يفوتني في هذا السياق أن أُشيد بدور الشراكة بين الوزارة ومؤسسات المجتمع المدني والاتحادات العمالية وأجهزة الإعلام في إنجاح هذا المشروع الكبير.
فمثل هذه القضايا لا يمكن أن تُترك للحكومة وحدها أو تتحملها جهة واحدة مهما بلغت كفاءتها.
إن إشراك الجميع في الحوار والمتابعة والتنفيذ يخلق حالة من الالتزام الجماعي ويجعل كل طرف في المنظومة يشعر بأنه مسئول عن حماية نفسه وزملائه ومكان عمله، وهي الروح التي تصنع المجتمعات القوية وتبني حضارات مستدامة.
وربما يكون من المهم أيضًا التأكيد على أن الإستراتيجية الوطنية للسلامة والصحة المهنية لن تنجح بمعزل عن التطوير التشريعي الدائم، فالمرونة في تعديل القوانين ومواكبة مستجدات العصر هما الضمانة لاستمرارية هذا المشروع وعدم تحوله إلى روتين إداري جامد.
ولنا في تجارب دول عديدة أسوة حسنة، فقد شهدنا كيف أن الأنظمة الأكثر نجاحًا هي تلك التي راقبت الواقع عن كثب، وأجرت التعديلات المناسبة على تشريعاتها كلما تطلب الأمر ذلك، حتى تظل السياسات قادرة على الاستجابة لكل جديد في سوق العمل وأدوات الإنتاج.

- قانون
- يوم
- سرت
- السيسي
- طالب
- درة
- كرة
- الصحة
- الطقس
- عامل
- الاقتصاد
- كورونا
- اخبار خالد الطوخى
- التنمية
- اليوم
- مؤشرات
- حوادث
- الوعي
- اقتصاد
- طقس
- الرئيس عبد الفتاح السيسي
- فلم
- المناخ
- طلبات
- تحرش
- خالد الطوخى
- ثورة
- الدول
- العالم
- مقالات خالد الطوخى
- استقرار
- القيادة السياسية
- قنا
- ثقافة
- خالد الطوخى يكتب
- التزام
- التصدي
- حملات
- منع
- اول
- مشروع
- ادا
- احتفال
- محافظ
- شخص
- رئيس
- حرارة
- تصادم
- داخل
- التحرش
- الشورى
- قرار
- اجتماع
- العملية
- مصر