من التخويف إلى الشراكة.. كيف يعيد القانون تعريف علاقة الدولة بصاحب المشروع؟

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- التنازل اليوم من أجل العائد غدًا.. منطق الدولة في دعم الاستمرارية لا الحصيلة السريعة

- المشروعات لا تفشل بسبب الأفكار فقط: تراكم الضغوط كعدو خفي للاستثمار الصغير

- البعد النفسي للحوافز الضريبية: كيف يخاطب القانون أحلام الشباب لا دفاتر الحسابات؟

- تشجيع بلا انفلات: فلسفة الثقة المشروطة في دعم النشاط الإنتاجي الحقيقي

- من حماية البدايات الهشة إلى اقتصاد أكثر عدالة: الرهان الحقيقي للحوافز الضريبية

الحديث عن المشروعات الصغيرة والمتوسطة لا يجب أن يُختزل في أرقام أو نسب نمو أو جداول إحصائية، لأن هذه المشروعات في جوهرها حكايات بشرية قبل أن تكون كيانات اقتصادية.

خلف كل مشروع صغير شخص قرر أن يغامر، أن يخرج من دائرة الانتظار، وأن يضع حلمه على المحك، مدفوعًا بالأمل أكثر مما هو مدفوعا بالضمانات.

لهذا السبب توقفت طويلًا أمام ما يطرحه القانون من حوافز ضريبية وتيسيرات وإعفاءات تستهدف هذه الفئة تحديدًا.

اللافت للنظر ليس فقط طبيعة الإعفاءات، بل الفلسفة التي تقف خلفها.

نحن أمام محاولة جادة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة وصاحب المشروع، علاقة تقوم على التشجيع بدلًا من التخويف، وعلى الشراكة بدلًا من الارتياب.

لسنوات طويلة، كان كثير من أصحاب المشروعات الصغيرة يشعرون بأن أول من يقف في طريقهم ليس السوق ولا المنافسة، بل التعقيد الإداري وثقل الأعباء الضريبية منذ اللحظة الأولى.

هذا الشعور لم يكن وهمًا، بل تجربة واقعية دفعت قطاعًا واسعًا من الناس إلى البقاء خارج المنظومة الرسمية، لا رغبة في التهرب، ولكن خوفًا من الدخول في دائرة لا يعرفون كيف يخرجون منها.

من هنا تأتي أهمية الحوافز الضريبية التي نص عليها القانون، لأنها لا تخاطب الورق فقط، بل تخاطب هذا الخوف الكامن في نفوس أصحاب المشروعات.

حين تُعفى الشركات الصغيرة والمتوسطة من ضريبة الدمغة ورسوم توثيق عقود التأسيس، فإن الرسالة تكون واضحة: البداية لن تكون مرهقة كما كانت، والخطوة الأولى لن تكون عقبة في حد ذاتها.

في تقديري الشخصي، هذه النقطة بالذات تمثل تحولًا حقيقيًا في التفكير الاقتصادي.

فالدولة هنا لا تنتظر حصيلة فورية، بل تراهن على الاستمرارية.

هي تدرك أن مشروعًا يتنفس في سنواته الأولى سيكون أقدر على العطاء لاحقًا، وأن الجنيه الذي يتم التنازل عنه اليوم قد يعود أضعافًا مضاعفة غدًا في صورة ضرائب مستقرة وفرص عمل ونشاط اقتصادي حقيقي.

ولم يتوقف الأمر عند الإعفاءات المرتبطة بالتأسيس فقط، بل امتد ليشمل إعفاءات من الضرائب العقارية في حالات وضوابط محددة، وكذلك إعفاءات تتعلق بالتسهيلات الائتمانية والرهون.

هذه التفاصيل قد تبدو فنية للبعض، لكنها بالنسبة لصاحب المشروع تفاصيل مصيرية.

فالحصول على تمويل، أو توثيق عقد، أو تسجيل أصل، كانت خطوات مكلفة ومربكة، وأحيانًا مؤجلة إلى أجل غير مسمى بسبب الأعباء.

ما يعجبني في هذا التوجه أنه يعترف ضمنيًا بأن المشروعات الصغيرة لا تموت بسبب ضعف الفكرة فقط، بل بسبب تراكم الضغوط.

ضغط التمويل، ضغط الضرائب، ضغط الإجراءات، وضغط الوقت.

حين يتم تخفيف جزء من هذه الضغوط، يصبح لدى صاحب المشروع مساحة لالتقاط أنفاسه، ومساحة للتطوير بدلًا من الاكتفاء بالبقاء.

لذا يمكنني القول إن هذه الحوافز تحمل بعدًا نفسيًا عميقًا، لا يقل أهمية عن بعدها الاقتصادي.

فالقانون هنا لا يخاطب المستثمر الكبير فقط، بل يخاطب الشاب الذي يفكر في فتح ورشة، أو شركة ناشئة، أو مشروع خدمي بسيط.

يخاطبه بلغة مفادها: لست وحدك، والطريق وإن كان صعبًا، فلن يكون معاديًا.

الأمر الأكثر نضجًا في هذه المنظومة هو أنها لم تُفتح بلا ضوابط.

فالقانون وضع شروطًا واضحة للاستفادة من الإعفاءات، بما يضمن أن تصل الحوافز إلى مستحقيها، وأن تُستخدم في دعم النشاط الإنتاجي الحقيقي، لا في التحايل أو البحث عن مكاسب سريعة.

هذا التوازن بين التشجيع والانضباط هو ما يمنح أي سياسة اقتصادية جديتها.

وأنا أرى أن هذه النقطة بالذات تُحسب للتجربة، لأنها تجنبنا الوقوع في فخ المبالغة أو الشعبوية الاقتصادية.

فالدولة هنا لا تقدم هدايا بلا حساب، بل تبني منظومة قائمة على الثقة المشروطة، وهي الثقة التي يحتاجها الطرفان كي تستقيم العلاقة.

ولا يمكن تجاهل الأثر الاجتماعي المتوقع لمثل هذه الحوافز.

فحين يتم تشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، فإننا لا نتحدث فقط عن نمو اقتصادي، بل عن استقرار اجتماعي.

هذه المشروعات هي أكبر مولد لفرص العمل، وهي القادرة على استيعاب طاقات بشرية كانت مهددة بالبطالة أو الهشاشة الوظيفية.

كما أن هذه التيسيرات تفتح الباب أمام دمج الاقتصاد غير الرسمي في المنظومة القانونية، وهو هدف طالما تم الحديث عنه دون أدوات حقيقية.

حين يشعر صاحب النشاط غير الرسمي بأن دخوله المنظومة لن يكون عقابًا، بل فرصة، يصبح الانتقال ممكنًا، بل مرغوبًا.

أنا هنا لا أتعامل مع الحوافز الضريبية باعتبارها حلًا سحريًا لكل المشكلات، ولا أتصور أن مجرد صدور قانون سيغير الواقع بين ليلة وضحاها.

التجربة الحقيقية تبدأ في التطبيق، وفي وعي الموظف، وفي بساطة الإجراء، وفي قدرة الجهات المعنية على تحويل النصوص إلى ممارسات عادلة.

الرهان الحقيقي الآن هو أن يشعر صاحب المشروع على الأرض بفرق حقيقي، لا بمجرد عناوين براقة.

أن يجد التيسير حين يذهب للتسجيل، وأن يلمس الإعفاء حين يوثق عقده، وأن يشعر بأن الدولة شريك في النجاح، لا خصمًا ينتظر العثرة.

في النهاية، أرى أن الحوافز الضريبية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة تمثل لحظة مهمة في مسار التفكير الاقتصادي، لأنها تعكس فهمًا أعمق لطبيعة التنمية.

التنمية لا تُصنع بالقرارات الكبرى فقط، بل تُصنع أيضًا بالقرارات التي تحمي البدايات الهشة، وتمنح الفرصة لمن يملك الفكرة والجرأة، حتى وإن لم يملك رأس المال الكبير.

وإذا نجحنا في تحويل هذه الفلسفة إلى واقع ملموس، فإننا لن نكون أمام مشروعات صغيرة ومتوسطة فحسب، بل أمام اقتصاد أكثر عدالة، وأكثر حيوية، وأكثر قدرة على الصمود في وجه الأزمات.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 443 الصادر بتاريخ  18 ديسمبر 2025

 

تم نسخ الرابط