«التواضع» تاج العظماء

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- «الغرور» مرض اجتماعي يغتال الإنسانية ويغذي التفاخر الأجوف 

- «وهم العظمة» خطر صامت يُفسد العلاقات ويهدم المجتمعات 

- «المتواضع».. الفائز الأكبر في صراعات الحياة 

- «الهيبة» جوهر الاحترام والثقة التي لا تحتاج إلى مظاهر

- «البهرجة الاجتماعية».. ظاهرة زائفة تخدع العيون وتُفقد الأشياء معناها الحقيقي

أحيانا، وسط هذا الصخب المستمر من التباهي والاستعراض، أشعر بأن التواضع أصبح عملة نادرة، فبينما أرى أن التواضع هو تاج العظماء الحقيقي، أصادف وجوها كثيرة، تتحدث كثيرا عن إنجازاتها، تحرص على أن يراها الجميع، وتخبر العالم كم هي عظيمة، لكن قلما أجد من يمشي مطمئنا بصمته، واثقا بخطاه، لا يسعى لإثبات نفسه؛ لأنه ببساطة يعرف من هو، وبما أننا مع كل أسف أصبحنا في زمن صارت فيه الواجهة أهم من الجوهر، أزداد قناعة بأن التواضع هو البطولة الصامتة، والرفعة الحقيقية التي لا تحتاج صوتا عاليا، بل هو تلك الحالة الإنسانية النبيلة التي لا تُشترى ولا تعلّب، وإنما تكتسب من التجربة، من الفهم العميق للذات، ومن احترام الآخرين دون أن نشعر بأننا فوقهم، فالتواضع ليس ضعفا، بل هو القوة في أن نعرف قيمتنا دون أن نُشعر بها أحدا، هو الثقة الهادئة التي لا تصرخ لكنها تُلهم.

ومن أسف فقد أصبحنا في زمن صاخب بالصورة والضجيج، حيث تسيطر ثقافة "التفاخر" على تفاصيل الحياة، يصبح للتواضع بريق خاص، وكأنك ترى ضوءا خافتا في وسط زحام الأضواء الزائفة، هذا الضوء لا يصرخ ليُرى، ولا يزاحم ليأخذ مكانه، لكنه يفرض حضوره بحقيقته. بصفائه، بثقته التي لا تحتاج إلى صخب.

لقد علمتني الحياة أن المتواضع لا يخسر أبدا، بل هو الرابح الحقيقي في معركة القيم، فحينما يكون العالم مشغولا بإبراز ما يملك وما حقق، يكون المتواضع منشغلا بما يمكن أن يقدمه، لا بما يقال عنه، لا يبحث عن تصفيق، ولا ينتظر تصنيفا، فقط يعمل في صمت، ويمر من بين الناس بابتسامة خفيفة، وظهر مفرود، لا تحمله الغرور، بل ترفعه الكرامة، ولعل أجمل ما في التواضع أنه لا يمكن اصطناعه، تماما كما لا يمكنك أن تزيف رائحة الزهرة، فالشخص المتواضع لا يتكلم كثيرا عن نفسه، لكنه حاضر دائمًا في قلوب من حوله، يُحترم حتى دون أن يطلب، وتذكر مواقفه لا؛ لأن الناس تمجده، بل؛ لأنه يمسهم بلطف، ويترك فيهم أثرا لا ينسى.

وإحقاقا للحق فإني في حياتي الشخصية، لم أشعر أبدا بانجذاب حقيقي إلا تجاه أولئك الذين يخفون عظمتهم تحت طبقات من البساطة، الذين كلما اقتربت منهم، ازددت احتراما، وكلما تعاملت معهم، أدركت أنهم من طينة نادرة، هؤلاء هم الذين تعلمت منهم أن الثقة لا تحتاج إلى مظاهر، وأن القوة الحقيقية لا تصرخ، بل تتنفس بهدوء.

أما اليوم، ونحن نعيش في عالم يقاس فيه النجاح بعدد المتابعين، والإنجازات بعدد الصور المنشورة، فإن التواضع يبدو كأنه فضيلة من زمن آخر، لكنه، برغم كل شيء، لا يزال يصمد، لا يزال يلهم، لا يزال يعلمنا أن هناك ما هو أعمق من المظاهر، وما هو أصدق من الضجيج، في زمن التباهي، يظل التواضع مرآة صافية ترى فيها جمال النفس، وقوة الثقة الهادئة، وصدق الروح، إنه ليس ضعفا كما يظنه البعض، بل شجاعة نادرة، شجاعة أن تكون حقيقيا في عالم يطلب منك أن تكون نسخة مزيفة.

ولعل الفارق بين الضجيج والقيمة الحقيقية كبير جدا، فالتواضع لا يعني التراجع أو التقليل من الذات، بل هو وعي عميق بالقيمة الحقيقية للإنسان بعيدا عن زيف المظاهر، كم من أشخاص ملأوا الدنيا ضجيجا بأسمائهم، ثم ما لبثوا أن تلاشت صورهم مع أول اختبار حقيقي، وكم من آخرين مرّوا في صمت، لكنهم تركوا في الوجدان أثرا لا يمحى.. الحقيقة أن من يعرف نفسه جيدًا لا يحتاج إلى أن يقنع العالم بعظمته، فالثقة الراسخة لا تحتاج إلى بهرجة، هي فقط تعرف طريقها وتمضي فيه بثبات؛ لأن الجوهر دائمًا أقوى من المظهر، وهناك من يدخل مجلسا بالكلمات، وهناك من يحضر بروحه، ويترك أثراً دون أن يتكلم كثيرا، هؤلاء هم أصحاب الثقة الهادئة، الذين لا يستعرضون عضلاتهم الاجتماعية، بل يعبرون الحياة بتواضع مدهش.

 ولقد علمتني التجارب أن التواضع لا يلغي الشخصية، بل يمنحها مساحة أعمق للفهم، للإنصات، للعطاء، إن الصمت حين يأتي من حكيم، يكون أبلغ من ألف خطبة، وإن التواضع حين يسكن القلوب، يصبح ملاذا آمنًا من الغرور القاتل الذي يستهلك الأرواح في سباق الظهور.

وربما يتأخر التواضع في الحصول على اعتراف زائف من مجتمع مهووس بالشكل، لكنه لا يسقط أبدا من ذاكرة القلوب، والناس، وإن انبهروا أحيانا بالبريق اللحظي، يعودون دوما إلى أولئك الذين أحسنوا إليهم، والذين احترموا إنسانيتهم دون استعلاء، المتواضع يربح في النهاية لأنه اختار الطريق الأصعب والأصدق، هو لا يزاحم على الضوء، بل يصنعه في عيون من حوله، لا يصرخ بإنجازه، بل يترك إنجازه يتحدث عنه في هدوء، ولذا، سيبقى التواضع، رغم كل شيء، طوق نجاة وسط صخب هذا العالم المادي المتوحش، وكلما ازدادت الحياة صخبا، وكلما امتلأ الواقع بالصور المصطنعة والاستعراضات الجوفاء، زاد يقيني بأن التواضع لم يكن يوما ضعفا، بل كان دوما عنوانا للقوة الهادئة، وسمة من سمات العظماء. 

ويظل المتواضعون هم الأجمل أثرا، والأكثر حضورًا في القلوب، حتى إن لم يرهم أحد على الشاشات، لقد علمتني التجربة أن الألق لا يحتاج إلى صراخ، وأن الجدارة الحقيقية لا تصرخ لتثبت نفسها، بل تمضي في طريقها بثقة، تشبه الجبال الشامخة التي لا تُحدث ضجيجا، لكنها تملأ الأفق وقارا وثباتا، فالتواضع هو تلك القوة التي لا ترى الحاجة لإثبات أي شيء، لأنه مطمئن بنفسه، ومرتاح في صمته، وراسخ في مبادئه، إن من يملك جوهرا حقيقيا لا يحتاج إلى لمعان زائف، ومن عاش متواضعا، عاش عزيزا؛ لأن الاحترام لا يشترى، بل يكسب بالكلمة الطيبة، وبالعين التي لا ترى الناس أقل، وبالقلب الذي يفرح للناس دون حساب.

ليتنا ندرك أن أجمل ما يمكن أن نكونه في هذا العالم، هو أن نظل كما نحن دون زيف، دون مبالغة، ودون الحاجة إلى التصفيق المستعار، فالتواضع في زمن التباهي بطولة عظيمة وكنز ثمين لا يقدر بثمن.

الصفحة الثانية عشر من العدد رقم 439 الصادر بتاريخ  20 نوفمبر 2025
تم نسخ الرابط