الأمن الإنساني.. مبادرة تضيء دروب الأمل

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- "كلنا واحد".. نموذج يرسخ معنى الدولة الحاضنة.. من حقيبة مدرسية إلى وطن كامل يحتضن أبناءه

- فلسفة جديدة لصناعة الولاء والانتماء.. واستثمار في مستقبل أكثر تماسكًا

- الأمن الإنساني ليس ترفًا.. بل ضرورة لاستقرار المجتمعات

- من حماية الحدود إلى احتضان القلوب.. حين تزرع الدولة الأمل في قلب طفل يتيم

- الأمن الإنساني.. دروس في الرحمة تصنع أجيالًا قوية

- عندما يشعر المواطن بالاحتواء يصبح أكثر التزامًا بالقانون وأكثر استعدادًا للتعاون مع مؤسسات الدولة

- المبادرات الإنسانية ليست أعمالًا موسمية عابرة بل يجب أن تتحول إلى ثقافة دائمة تعكس فلسفة الدولة في التعامل مع أبنائها

الإنسان هو جوهر أي مشروع وغاية أي دولة، وأعظم ما يمكن أن يُقدَّم له ليس فقط الأمن بمعناه التقليدي الذي يحفظ الحدود ويحمي الممتلكات ويصون النظام، بل الأمن بمفهومه الأشمل والأعمق: الأمن الإنساني.

هذا المفهوم يتعامل مع الإنسان باعتباره قيمة عليا، فيمنحه الشعور بالاحتواء، ويعيد إليه الأمل حين تشتد الأزمات وتتعقد الظروف.

ولعل أجمل ما يميز هذا النوع من الأمن أنه يفتح أبوابًا جديدة للحياة، ويجعل الدولة أقرب إلى أبنائها، لا من خلال القوانين وحدها، بل من خلال الرحمة والرعاية واللمسة الإنسانية التي لا يوازيها شيء.

لقد عكست المبادرة الأخيرة التي حملت عنوان "كلنا واحد" هذا المعنى بكل وضوح.

لم تكن مجرد حملة لتوزيع حقائب مدرسية أو بعض المستلزمات البسيطة، بل كانت فعلًا معنويًا بليغًا أعاد صياغة مفهوم العلاقة بين المواطن ومؤسساته.

حين ترى طفلًا يتيمًا يتسلم حقيبته بعينين لامعتين، أو مريضًا صغيرًا يبتسم رغم ما يثقل جسده من أوجاع، تدرك أن ما جرى أبعد بكثير من مجرد توزيع أدوات مدرسية.

إنه في جوهره عملية ترميم للروح الإنسانية التي قد تتصدع تحت وطأة الفقد أو المرض أو الحاجة.

توقفت طويلًا أمام تلك المشاهد التي تناقلتها القلوب قبل الكاميرات؛ أطفال في دور الأيتام، ومرضى في المستشفيات، وطلاب في الأحياء والمناطق المختلفة، جميعهم تلقوا نفس الاهتمام بلا تفرقة ولا تمييز.

هذه المساواة في الرعاية تؤكد أن الدولة تنظر إلى مواطنيها بعين العدالة الشاملة.

فلا فرق بين يتيم ومريض، ولا بين ساكن مدينة جديدة أو حي قديم، الكل في النهاية يستظل بمظلة وطن واحد يتعامل معهم بروح الأسرة الكبيرة.

ما حدث في تلك المبادرة هو رسالة واضحة تقول: إننا في دولة لا ترى مواطنيها مجرد أعداد في السجلات، بل كائنات بشرية تحمل مشاعر وآمالًا واحتياجات.

والطفل الذي نشأ وهو يشعر أن هناك من يهتم به، سيكبر وهو ممتلئ بالانتماء، وسيدرك أن الأمان ليس فقط بابًا يغلق في وجه الخطر، بل قلبًا يُفتح في لحظة الحاجة.

هذا الطفل حين يصبح شابًا لن ينسى أنه في يوم من الأيام وجد من يمسح دموعه ويهتم بتفاصيله الصغيرة، وسيصبح مواطنًا يحمل الولاء لبلده لأنه لمس أثره في حياته.

لقد رأيت في هذه المبادرة بُعدًا آخر يتجاوز الجانب الإنساني المباشر، وهو البُعد التربوي.

فالرسائل التي يتلقاها الأطفال في الصغر تظل محفورة في وجدانهم، وتشكل وعيهم وهويتهم على المدى الطويل.

حين يرى الطفل أن الدولة تهتم به في ضعفه، فإنه يتعلم درسًا عمليًا في الرحمة والعطاء، وسيكبر وهو يمارس نفس القيم مع الآخرين.

وهكذا، لا تصنع المبادرة فرحة لحظية فحسب، بل تزرع بذورًا لقيم أجيال قادمة تؤمن بأن التضامن هو سر قوة المجتمعات.

إن الأمن الإنساني يكتسب في هذه اللحظة معنى جديدًا؛ فالأمن لم يعد مجرد إجراء وقائي أو خط دفاعي، بل صار قيمة اجتماعية شاملة، تتحرك لتشمل حتى أبسط تفاصيل الحياة اليومية.

حقيبة مدرسية قد تبدو شيئًا عاديًا للبعض، لكنها عند طفل يتيم أو مريض تتحول إلى رمز للحب والاهتمام، وإلى رسالة بأن هناك من يفكر فيه ويمد له يد العون.

هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تبني الثقة بين المواطن والدولة، وتجعل الولاء ينبع من القلب لا من الخوف.

تأملت جيدًا وجوه الأطفال التي امتلأت بسعادة مفاجئة، وأدركت أن الضحكة التي رسمتها تلك المبادرة أثمن من أي كلمات، فهي تساوي مستقبلًا أكثر إشراقًا، وتساوي شعورًا داخليًا بالأمان لا يمكن شراؤه أو فرضه بالقوانين.

وفي المقابل، فإن كل من ساهم في هذه المبادرة، من أصغر جندي إلى أكبر مسؤول، شارك في صناعة معنى جديد للأمن لا يعرف الحدود التقليدية، بل ينساب في وجدان البشر كالماء الذي يروي الأرض العطشى.

إن أجمل ما في مثل هذه المبادرات أنها تأتي في لحظات يشعر فيها الناس بالضغط والقلق من المستقبل.

وسط الأزمات الاقتصادية وظروف الحياة القاسية، يحتاج الإنسان إلى ما يطمئنه بأنه ليس وحده، وأن هناك من يمد له يد العون.

وهنا يبرز الأمن الإنساني كأهم دعامة لاستقرار المجتمع، لأنه يعيد الثقة، ويمنح الأمل، ويؤكد أن الدولة قادرة على أن توازن بين الواجب الأمني والرسالة الإنسانية.

قد يظن البعض أن الأمن الإنساني مجرد عمل اجتماعي جانبي، لكنه في حقيقته ركيزة أساسية لأمن الدولة واستقرارها.

فعندما يشعر المواطن بالاحتواء، يصبح أكثر التزامًا بالقانون وأكثر استعدادًا للتعاون مع مؤسسات الدولة.

بينما يغيب هذا الشعور فيتحول بعض الأفراد إلى عبء، وربما إلى تهديد. من هنا نفهم أن الاهتمام بالإنسان في ضعفه ليس ترفًا، بل ضرورة أمنية وإستراتيجية.

ومن الدروس المهمة أن المبادرات الإنسانية ليست أعمالًا موسمية عابرة، بل يجب أن تتحول إلى ثقافة دائمة تعكس فلسفة الدولة في التعامل مع أبنائها.

حين تصبح الرحمة جزءًا من السياسات العامة، وحين يتحول العطاء إلى ممارسة يومية، سيكبر المجتمع وهو أكثر تماسكًا وأقوى في مواجهة التحديات.

وهذا هو الاستثمار الحقيقي الذي يبني المستقبل على أسس من الثقة والانتماء.

ولعل ما يميز مبادرة "كلنا واحد" هو أنها لم تقتصر على تقديم مساعدات مادية فحسب، بل صنعت حالة وجدانية عامة.

لمست قلوب المواطنين، وأرسلت إليهم رسالة بأنهم ليسوا منسيين، وأن مؤسسات دولتهم قريبة منهم في تفاصيل حياتهم اليومية.

هذه الرسائل المعنوية كثيرًا ما تكون أقوى تأثيرًا من أي دعم مادي مباشر، لأنها تبني جسورًا من الثقة المتبادلة.

وعلينا أن ندرك أن العالم من حولنا يتغير بسرعة، وأن الدول التي تنجح في مواجهة التحديات ليست الأقوى عسكريًا فقط، بل الأقوى مجتمعيًا وإنسانيًا.

فالمجتمع الذي يشعر أفراده بالأمان النفسي والاجتماعي هو الأكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات، والأكثر استعدادًا للمشاركة في البناء والتنمية.

ومن هنا يصبح الأمن الإنساني ليس مجرد مبادرة، بل إستراتيجية وطنية شاملة.

في النهاية، يبقى الأمن الإنساني هو أعظم ما يمكن أن نقدمه لأوطاننا ولأجيالنا المقبلة.

هو المعنى الذي يربط بين الدولة والمواطن برابطة وجدانية لا تهتز، ويجعل كل فرد يشعر أن له مكانًا وقيمة، مهما كانت ظروفه أو معاناته.

وما جرى مؤخرًا هو برهان ساطع على أن الدولة التي تزرع الأمل في قلوب أطفالها هي دولة قادرة على أن تحصد الولاء في قلوب رجالها، وأن الوطن الذي يعرف كيف يمسح دمعة طفل هو وطن لا يخشى المستقبل، لأنه يصنعه بأيدٍ ممتلئة بالرحمة والإيمان بالإنسان.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 430 الصادر بتاريخ 25 سبتمبر 2025
تم نسخ الرابط