السرعة تسرق العمر.. والوعي يعيد لنا أنفاس الحياة

- اللحظات الضائعة بين الزحام "ثمن" ندفعه من أعمارنا دون أن ندري
- أعمارنا تُستنزف في دوامة التكرار.. والأيام نسخة باهتة من بعضها
- إيقاعات الحياة السريعة تفقدنا القدرة على التوقف والاستمتاع بتفاصيل وجودنا اليومية
- نحن نجري في سباق لا نعرف نهايته وكأن الحياة مطاردة بلا راحة
- السرعة حرمتنا من أهم هدايا الزمن وهي: التأمل والسكينة والقدرة على تذوق الأيام ببطء وامتنان
كلما جلست مع نفسي في لحظة هدوء نادرة، أجدني أتساءل: متى فقدنا القدرة على التمهل؟ متى أصبحنا نحيا وكأننا مطاردون من شيء ما؟ لماذا صارت أيامنا تشبه بعضها، نبدأها ونحن نلهث، وننهيها ونحن منهكون، لا نذكر منها سوى جدول مزدحم ومهام لم تكتمل؟ هناك شيء ما خطأ، شيء يسرق من أرواحنا القدرة على التذوق، على الشعور، على أن نعيش بحق.
أشعر بأن السرعة أصبحت قدرًا مفروضًا علينا، ليس فقط في شوارعنا التي تضيق بالزحام، ولا في خطواتنا المتعجلة، بل في كل شيء: في أحاديثنا، في علاقاتنا، حتى في مشاعرنا.
نحب بسرعة، نغضب بسرعة، ننسى بسرعة، حتى الحزن لم نعد نعطيه وقته الكافي.
لقد أفقدتنا إيقاعات الحياة السريعة تلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تمنح لحياتنا طعمًا.
لم نعد ننتبه لرائحة المطر الأولى، ولا نسمع خفقة القلب عندما يهدأ كل شيء من حولنا، ولا نلمح نظرة امتنان أو لمسة حنان وسط زحام اليوم.
كل شيء بات يمر سريعًا، سريعًا جدًا، حتى العمر.
أنا لا أكتب هذا لأنني أملك الحل، بل لأني أشعر تمامًا بهذا الضياع، أشعر بأن أعمارنا تُستهلك دون أن نحياها بحق، وأدرك أن السرعة لا تمنحنا حياة أغنى، بل تسلبنا الحياة نفسها.
لذلك كان لا بد أن أكتب لأتأمل، لأتذكر، وربما لأذكّر، لأن الحديث عن السرعة، في جوهره، هو حديث عن الإنسان الذي نكاد ننساه داخل هذا السباق الطويل.
نحن في زمن يتسابق فيه الجميع على مدار الساعة، ووسط زحام لا ينتهي من المهام والمسؤوليات، تتسرب إلى حياتنا ظاهرة لا تُرى لكنها تؤثر على أعماقنا: السرعة التي تسرق العمر. نعيش وكأننا على متن قطار لا يتوقف، يمر أمام مناظر الحياة الحقيقية بسرعة تجعلك تكاد لا تلمحها.
هذه السرعة، التي كانت ذات يوم تعبيرًا عن التقدم والتطور، تحولت اليوم إلى لعنة تستنزف روحنا وتهرب منا لحظات الهدوء والتأمل التي تسمح لنا بالاستمتاع بالحياة كما تستحق.
والحق يقال إن الحياة باتت وكأنها سباق محموم، نركض دون توقف خلف إنجازات مادية أو مهنية، نبحث عن مزيد من الوقت لإنجاز المزيد من المهام، وننسى أن نعطي لأنفسنا فرصة لنفهم اللحظة التي نعيشها حقًا.
فقدنا القدرة على الإحساس بتفاصيل بسيطة؛ مثل دفء الشمس على وجهنا في صباح هادئ، أو رائحة القهوة الطازجة التي تعبق في المنزل، أو حتى ابتسامة طفل يمر بجانبنا دون أن ننتبه لها.
ما يحدث في زمن السرعة هو أننا أصبحنا نلتقط الصور بسرعة، نغادر الأماكن بسرعة، وننتقل بين الأحداث بسرعة، حتى صارت تفاصيل الحياة الصغيرة تختفي تحت ضغط إيقاع لا يرحم.
السرعة حرمتنا من أهم هدايا الزمن، الوقت، وقت لنكون مع أنفسنا حقًا، لنسمع أفكارنا، لنشعر بمشاعرنا، لنعيش اللحظة بوعي كامل.
لقد أصبح الوقت مجرد رقم في جدول مزدحم، لا وقت فيه لتأمل أو للحظة صفاء.
كيف نتوقع من حياتنا أن تكون غنية إذا كنا نمر فوقها مثل النوافذ المظللة في قطار سريع؟ هل نستطيع أن نخبر أنفسنا بأننا عشنا حياة كاملة ونحن نقتحمها بهذه الوتيرة؟ للأسف، كثير منا يكتشف بعد سنين أن العمر مضى وهو مجرد حسابات وأرقام، وأن القلب كان فارغًا من التفاصيل التي تصنع المعنى، التفاصيل الصغيرة ليست ترفًا أو ترفيهًا، بل هي من أساسيات الوجود الإنساني.
هي الذرات التي تشكل الذكريات، وهي الشرارات التي تبعث الحياة في الروح.
حين نشعر بحفيف أوراق الشجر تحت أقدامنا، أو نستمع لصوت المطر على نافذتنا، فإننا نتصل بالعالم بطريقة عميقة وإنسانية.
في هذه اللحظات الصغيرة، نجد معنى لحياتنا.
لكن مع إيقاع السرعة، تتلاشى هذه اللحظات، وتتحول إلى صور باهتة تمر عبر شاشات هواتفنا أو تلتقطها كاميراتنا، دون أن نشعر بعبقها الحقيقي.
لقد تعلمنا أن نعيش في عالم يعظّم الإنتاجية والإنجازات، ولكن هل نسينا أن الإنسان ليس آلة؟ نحن كائنات بحاجة للراحة، للتمهل، وللاستمتاع.
التسرع المستمر لا يقتل فقط الاستمتاع، بل يضعف صحتنا النفسية والجسدية، ويولد التوتر والقلق.
لم تعد السعادة في الوصول فقط، بل في الرحلة نفسها؛ في كل لحظة نقضيها ونحن نشعر، نتأمل، نحب، نضحك، ونعيش ببساطة.
من الضروري اليوم أن نعيد تعريف علاقتنا بالزمن، لا يمكن أن تكون السرعة هدفًا بحد ذاتها، بل يجب أن تكون وسيلة تساعدنا على تحسين حياتنا، لا أن تسلبنا أهم ما فيها
علينا أن نمارس فن التباطؤ؛ أن نخصص أوقاتًا للانعزال عن ضجيج العالم، نعيش فيها ببطء، نتذوق تفاصيل الحياة، نقرأ، نستمع، ونستمتع بوجودنا.
حتى اللحظات القصيرة من التوقف والتأمل تعيد توازننا وتمدنا بطاقة حقيقية.
إن السرعة ليست العدو بحد ذاتها، لكن عندما نسمح لها بأن تسرق منا لحظات الفرح والتواصل والهدوء، تتحول إلى لعنة.
علينا أن نستعيد الوعي بأن العمر لا يُقاس بعدد الساعات التي نعمل فيها أو الساعات التي نركض فيها خلف الأهداف، بل بعدد اللحظات التي عشناها بصدق، والتي منحنا فيها أنفسنا فرصة التمتع بكل تفاصيلها، مهما كانت بسيطة.
وحين أجلس الآن وأتأمل كيف مضت الأيام، أجد أن أكثر ما يؤلمني ليس ما فات من فرص، بل ما فات من لحظات.. لحظات كان يمكن أن أتوقف فيها لأستمع، لا لِأُجيب، لحظات كان يمكن أن أبتسم فيها لشخص أحبّه، لا أن أرسل له رمزًا في رسالة سريعة.
لحظات كان يمكن أن أستنشق فيها رائحة قهوة الصباح بامتنان، لا أن أتناولها على عجل في طريقي إلى المجهول.
لقد أدركت، بعد كل هذا الركض، أن السرعة لا تسبق الزمن، بل تسرق منّا العمر، تسرق عمق التجربة، وصدق المشاعر، وبساطة الحضور.
جعلتنا نظن أن الإنجاز هو الحياة، بينما الحقيقة أن الحياة هي التفاصيل، تلك التي مررنا بها ولم نرها. تلك اللحظات التي كانت تستحق أن نقف عندها، أن نعيشها، لا أن نمر فوقها كمن يطارد شيئًا لن يصل إليه أبدًا.
لا أكتب لأدعو إلى العزلة أو البطء المفرط، بل فقط إلى قليل من التمهل. أن نُبطئ خطانا قليلًا، أن نتنفس، أن نستمع بعمق، أن ننظر في العيون لا في الشاشات، أن نتذوق الحياة قبل أن تفرّ من بين أيدينا، ربما لن نغير العالم من حولنا، لكن بإمكاننا أن نغير ما بداخلنا.
أن نعيد ضبط الإيقاع ليتسق مع نبض قلوبنا، لا مع صخب الخارج.
أن نمنح أنفسنا نعمة الاستمتاع بما تبقّى من لحظات، قبل أن نصحو يومًا وندرك أننا عشنا كل شيء إلا الحياة نفسها، فلنتوقف قليلًا. فلنهدأ. فلنُصغِ لما بداخلنا، ففي البطء، نعود لأنفسنا.
وفي التأمل نبدأ أخيرًا في الحياة.
