الحسد "آفة" العصر

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- مرض مزمن ومرآة سوداء تعكس سلوكيات النفس البشرية

- الحاسد عدو الرضا.. والشعور بالنقص والغيرة يولد الحقد والكراهية 

- السوشيال ميديا تزرع بذور الحسد والغل وتُفسد القلوب 

- الحسد يسرق راحة النفوس ويقتل السلام الداخلي 

- التسامح والرضا أساس التوازن النفسي وبناء العلاقات الإنسانية الصحيحة

لا أعرف كيف يمكن تفسير تلك النظرة التي تتسلل في صمت، تخترق جدران الروح دون صوت، وتترك وراءها شرخًا خفيًا قد لا نراه بالعين المجردة، لكنه يحفر في الأعماق.

نحن في زمن باتت فيه الأنظار أثقل من الكلمات، والقلوب أكثر امتلاءً بالحسد من الحب.

ليس غريبًا أن نتحدث عن الحسد، لكنه مؤلم حين ندرك كم هو حاضر في تفاصيل حياتنا اليومية، حتى بات عبئًا نفسيًا واجتماعيًا، يتسلل خلسة من بين الصور والمنشورات والأحاديث العابرة.

وإن كنت صادقا مع نفسي، فلا بد أن أعترف بأنني – مثل كثيرين – لم أسلم يوما من شعور الحسد، ذلك الشعور الغامض الذي يندس خفية في القلب، في لحظة ضعف أو إحباط، حين نرى من يملك ما تمنيناه، أو يعيش ما حلمنا به طويلًا.

الحسد ليس حكرًا على السيئين، بل هو انعكاس لإنسانيتنا الناقصة، تلك التي تتوق للكمال حتى وهي تعلم أنه مستحيل.

لكنني أدركت مع الوقت أن الحسد لا يضر إلا صاحبه، وأنه يأكل في القلب كما تأكل النار في الهشيم، يسرق من النفس نورها، ومن الروح صفاءها.

تعلمت، بعد صراعات صامتة مع هذا الإحساس، أن أراقب ما أشعر به دون إنكار، وأن أواجه الغيرة بالحمد، وأبدل الحقد بالدعاء.

أن أقول لنفسي حين تغار: لعلها نعمة لا تناسبك، أو ابتلاء في ثوب النعمة لا تراه.

لم يعد يسحرني البريق الذي يملكه الآخرون، بقدر ما يسحرني السلام الذي يمكن أن أزرعه في داخلي حين أصفّي قلبي من المقارنات، وأرضي حقًا بما قُسِم لي.

نحن لا نختار مشاعرنا دائمًا، لكننا مسؤولون عن كيف نتصرف بها.

إن كانت النفس تميل للحسد، فالقلب السليم هو من يروّضها، ويعلّمها الرضا والعين النظيفة.

فالنعمة الحقيقية ليست ما نملكه، بل كيف نشعر تجاه ما نملكه. وكم من فقير في النعم غني في قلبه، وكم من غارق في المال لا يذوق طعم الراحة.

والحسد، كما وصفه الدين، حقيقة لا تقبل الجدال، وقد ورد ذكره في مواضع عدة، أبرزها في سورة الفلق: "وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" وهو ما يعكس خطره وواقعيته في حياة الإنسان.

لم يكن الحسد يومًا مجرد شعور عابر، بل هو نار تحرق أول من توقد فيه.

الحاسد لا يحترق فقط بغيرته، بل يعيش في دوامة من المقارنات المدمرة، غير قادر على التمتع بما بين يديه، لأن عينيه دائمًا مشغولتان بما لدى الآخرين، أما في علم النفس، فالحسد يُصنف كواحد من المشاعر السلبية المعقدة، غالبًا ما ينبع من ضعف تقدير الذات، وشعور دفين بالنقص.

عندما يرى الشخص الآخر يتمتع بشيء لا يملكه، بدلًا من أن يسعى لتطوير ذاته أو قبول ما قسمه الله له، يتوجه إلى الحقد والضيق والتمني بزوال النعمة عن غيره، وكأن النور الذي يراه في الآخرين، يفضح عتمته الداخلية.

وفي مجتمعاتنا العربية، نُكثر من ربط الحسد بالعين، ونعلق عليه مآسينا، فتارة يقال: "فلان محسود"، وتارة "عين حاسدة صابتنا"، ولكن قليلون من يتوقفون أمام حقيقة الحسد في دواخلهم، ويواجهون تلك المشاعر التي تنمو في الظل، لعل الخطورة الأكبر للحسد لا تكمن فقط في آثاره النفسية على الحاسد، بل في طاقته السلبية التي قد تؤثر في الآخر، ولو على مستوى الطاقة والمشاعر، إننا اليوم بحاجة إلى وقفة مع الذات، نراجع فيها دواخلنا، وننقّي قلوبنا من الحقد، ونعيد تعريف النجاح والسعادة بعيدًا عن مقاييس المقارنات.

فكل روح تحمل رزقها، ولكل شخص نصيبه، ولا أحد يأخذ ما ليس له، ولا شيء يذهب دون موعده.

والحسد ليس ضعفا أخلاقيا فقط، بل هو عبء وجودي.

يقتل العلاقات، ويبدد السلام الداخلي، ويقضي على الطمأنينة.

لنكن أكثر صفاءً مع أنفسنا، أكثر امتنانًا لما نملك، وأشد إدراكًا بأن أعظم النعم قد لا تُرى، بل تُشعر، الحسد مرض لا يحتاج فقط إلى تحصين ديني، بل إلى علاج داخلي، وتربية نفسية، وثقافة قبول واكتفاء.

فحين نملأ قلوبنا بالرضا، لن تجد مشاعر الحسد موطئ قدم فينا.

وللحق فإن جميع الأديان تدين بالسلم والتسامح، وتعتبر الحسد من الكبائر التي تضر الفرد والمجتمع، وحثت الأديان على الشكر لله على جميع النعم التي يغرق فيها الإنسان، وحثت على التعاون والتكاتف بين الناس، فالحسد له آثار سلبية على الجميع  ولكن يمكن علاجه والوقاية منه من خلال تربية النفس على القيم الأخلاقية، وتقوية الإيمان بالله، علينا جميعًا أن نسعى إلى بناء مجتمع خالٍ من الحسد والكراهية، مجتمع تسوده المحبة والتسامح.

وعلى الرغم من أن ظاهرة الحسد تعد من أقدم الظواهر النفسية التي عانى منها الإنسان عبر التاريخ، لكن مع تطور التكنولوجيا وظهور وسائل التواصل الاجتماعي،أخذت هذه الظاهرة أبعادًا جديدة وباتت أكثر تعقيدًا،فالسوشيال ميديا، التي صُممت لربط الناس وتقريب المسافات، أصبحت في الوقت نفسه أرضًا خصبة لنمو بذور الحسد والتنافس غير الصحي، حيث تُعتبر وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة مرآة تعكس حياة الآخرين بأبهى صورها، ويشارك الأفراد صورًا ومقاطع فيديو توثق لحظات سعادتهم وإنجازاتهم، وهذا العرض المستمر للحياة المثالية يخلق لدى الكثيرين شعورًا بالنقص والدونية، مما يزيد من فرص الشعور بالحسد.

واللافت للنظر أن وسائل التواصل الاجتماعي تساهم في تفاقم مشكلة الحسد من خلال عدة عوامل، منها: تعرض السوشيال ميديا المستخدمين لكم هائل من المحتوى الذي يركز على الإنجازات والنجاحات، مما يخلق ضغطًا نفسيًا على الأفراد ويدفعهم إلى مقارنة أنفسهم بالآخرين، وأيضا تتيح السوشيال ميديا للمستخدمين الوصول إلى حياة الآخرين بسهولة، مما يزيد من فرص التعرض للمعلومات التي تثير مشاعر الحسد، كما أن الرغبة في الحصول على الإعجاب والتقدير على منصات التواصل الاجتماعي تدفع الكثيرين إلى التباهي بإنجازاتهم وممتلكاتهم، مما يزيد من الشعور بالغيرة والحسد لدى الآخرين، وإذا وقع الحسد على الإنسان حقاً فقد تكون هناك أعراض كالضيق، والفتور عن الطاعة، والقلق وغيرها، لكن قد يكون في الإنسان مرض فعلاً، فينبغي عليه مراجعة الأطبّاء والأخذ بالأسباب والعلاج، ولا يُوسوس نفسه دائماً بأن كل ما يصيبه هو من الحسد والعين، ويحرص على دعاء الله تعالى ويحافظ على أذكاره ويتوكّل على الله حق التوكل.

إنني أرى أن الحسد معركة داخلية، وكل واحد منا إما أن يخسر فيها نفسه، أو يربح صفاءه، وأنا، في كل مرة أغار فيها، أختار أن أتعلم، أن أرقى، أن أستبدل تلك النار بنور، وربما يكون هذا هو الطريق الوحيد نحو النجاة من هذا المرض القديم الذي لازم الإنسان منذ هابيل وقابيل حتى يومنا هذا.

الصفحة السابعة من العدد رقم 423 الصادر بتاريخ 7 أغسطس 2025

 

تم نسخ الرابط