الزراعة المصرية.. رسالة الخير إلى العالم

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

-  6.24 مليون طن من الصادرات الزراعية المصرية: أرقام تُعبّر عن عرق الفلاح ورؤية الدولة

- من قلب الحقول إلى موائد العالم.. الزراعة المصرية رسالة لا تعرف الحدود

- إستراتيجية وطنية طموحة: 14 مليار دولار صادرات زراعية بحلول 2030

- التنوع المناخي والتربة الخصبة يصنعان قائمة صادرات زراعية تُمثل كل أقاليم مصر

- من الزراعة التقليدية إلى الابتكار الرقمي: شباب مصر يُعيدون اكتشاف الأرض

- مصر تُواجه التحديات العالمية وتُثبت أن الزراعة سلاح سيادي في زمن الأزمات

- المنتج الزراعي المصري يدخل 160 سوقًا عالمية بثقة وجودة واعتماد دولي

- الفلاح المصري.. البطل الصامت الذي يكتب قصة النجاح بعرقه وإخلاصه

كنت وما زلت أؤمن بأن الزراعة ليست مجرد مهنة، بل رسالة متكاملة الأركان، تبدأ من أعماق الأرض ولا تنتهي إلا حين تصل ثمرة التعب إلى يد إنسان في مكان بعيد، لا يعرف من زرعها، ولا كيف نضجت، لكنه يشعر بأنها جاءت من أرض تعرف كيف تُنبت الخير وتُهديه بكرم.

وقد ازددت يقينًا بهذا المعنى حين قرأت الخبر الذي أعلن رسميًا تجاوز الصادرات الزراعية المصرية حاجز الـ6.24 مليون طن حتى الآن، بزيادة تُقدّر بـ575 ألف طن عن نفس الفترة من العام الماضي.

هذه ليست مجرد زيادة كمية في سجلات التصدير، بل صفحة جديدة تُضاف إلى كتاب الوطن الذي يكتبه المزارعون بعرقهم، وتُدوّنه الدولة بسياساتها، ويقرؤه العالم بإعجاب ودهشة.

لقد توقفت طويلًا أمام هذا الرقم. 6.24 مليون طن من المنتجات الزراعية خرجت من أرض مصر، من قلب حقولها وبساتينها، واتجهت في رحلات شحن إلى مختلف بقاع الأرض.

لم تكن هذه الكمية هي ما شدني، بل ما تمثله: ملايين اللحظات التي قضاها الفلاحون في الحقول، بين الحر والبرد، بين ريّة وتسميد، بين غرس وجني.

هي حكاية إنسان مصري قرر ألا ينتظر المعجزات، بل أن يصنعها بيده، وبإيمانه بأن الأرض لا تخذل من يُحبها.

وراء هذه الطفرة يقف جهد مؤسسي من الدولة، التي وضعت نصب أعينها أن الزراعة ليست قطاعًا مهملًا أو موروثًا من الماضي، بل جناحًا رئيسيًا في معركة البناء والنهوض.

فحين تقرر الدولة أن ترفع قيمة صادراتها الزراعية إلى 14 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2030، وتُخطط لزيادة مساحة الأراضي الزراعية إلى أكثر من 12 مليون فدان، وتستهدف إدماج ملايين الفلاحين ضمن منظومة رقمية شاملة، فإنها لا تطارد أرقامًا فحسب، بل تصنع مستقبلًا جديدًا قوامه الأمن الغذائي، والسيادة على الموارد، والاستثمار في الإنسان قبل الأرض.

وما يجعل هذا الإنجاز أكثر أهمية أنه جاء في وقت تتصاعد فيه التحديات على المستويين المحلي والدولي.

عالم مضطرب اقتصاديًا، ومناخ يتغير بسرعة، وأسواق تُغلق أبوابها أحيانًا بفعل السياسة أو المنافسة، ومياه لم تعد كما كانت وفيرة.

ورغم كل ذلك، كانت مصر تُصرّ على أن تزرع، وأن تُصدّر، وأن تُنافس.

لم يكن ذلك عنادًا، بل إيمانًا بأن الأرض حين تُدار بعقل، وتُروى بضمير، تثمر ما لا يخطر على بال.

اللافت للنظر أن الصادرات لم تكن موجهة إلى سوق بعينها، بل امتدت لتشمل أكثر من 160 دولة، مما يعني أن المنتج المصري بات يحمل اسمًا له وزنه وثقله في الأسواق العالمية.

لم يعد مجرد خيار ضمن بدائل، بل أصبح مطلوبًا، موثوقًا به، ومُفضلًا في بعض الأحيان.

وهو ما يعكس التزام الدولة بضبط الجودة، وتطوير منظومة الحجر الزراعي، واعتماد معايير دولية صارمة، سواء في الإنتاج أو في التعبئة والتغليف أو في التتبع الإلكتروني للمزارع.

ولو أردنا أن نقرأ ما وراء هذه الأرقام، لوجدنا أنفسنا أمام قصة نجاح وطنية خالصة.

قصة بدأت من فلاح قرر ألا يبيع أرضه رغم المغريات، وموظف صغير آمن بأن عمله في وحدة إرشاد زراعي قد يُغير حياة قرية كاملة، ومسؤول أدرك أن الإصلاح الزراعي لا يجب أن يبقى حبرًا على ورق، بل يجب أن يصبح واقعًا يُلمس في المحصول والسوق والعائد.

هي قصة شعب اختار أن يعود إلى الأرض لا هربًا من ضيق الحياة، بل بحثًا عن المعنى، وتمسكًا بالجذور، واستثمارًا فيما لا تبور تجارته.

وقد كان لافتًا أيضًا أن قائمة المحاصيل المصدّرة تضم باقة واسعة من المنتجات التي تُعبّر عن تنوع التربة المصرية وثرائها: من الموالح والبطاطس إلى الفاصوليا والبصل والفراولة والطماطم والعنب والرمان.

كل محصول في هذه القائمة يحمل حكاية منطقة، ونكهة قرية، وبصمة مزارع.

كل منها يحمل رائحة النيل، وملمس الطمي، وأمل الوطن في أن يُرى على مائدة الآخرين.

الجميل في هذه الرحلة أن الأمر لم يعد محصورًا في الفلاح وحده، بل دخلت فيه أجيال شابة بدأت تعيد اكتشاف الزراعة كمساحة للابتكار، من خلال الزراعة العضوية، والتكنولوجيا الذكية، والتصدير الإلكتروني، وحتى العلامات التجارية الخاصة بالمنتجات المحلية.

أصبح الشاب الذي تخرّج في كلية التجارة أو الهندسة يُفكّر في استصلاح فدانين على أطراف الدلتا أو في الصعيد، بعدما رأى كيف يمكن للأرض أن تدر دخلًا كريمًا، وأثرًا نافعًا.

وليس سرًا أن الوصول إلى هذا الإنجاز تطلب عملًا دؤوبًا على مدار سنوات.

فقد تبنّت الدولة برامج دعم متعددة، وشاركت في المعارض الدولية للترويج للمنتجات المصرية، وفتحت أسواقًا جديدة، وواجهت أزمات الشحن والتخزين والتسعير بحلول مبتكرة، ورفعت من مستوى التدريب والإرشاد، وضبطت منظومة الدعم بحيث لا تُهدر، ولا تُستغل.

كل هذا لم يكن مجرد جهد إداري، بل هو تعبير عن فلسفة حقيقية ترى أن الزراعة ليست عبئًا على الموازنة، بل ركيزة من ركائز النمو.

وحين ننظر إلى المستقبل، نجد أن الأفق مفتوح لأكثر مما تحقق.

فمصر التي صدّرت 6.24 مليون طن اليوم، قادرة – بالعلم والإدارة الجيدة – على أن تصل إلى 10 ملايين طن أو أكثر، خاصة مع تطور أساليب الزراعة، وزيادة الاعتماد على التكنولوجيا، وتحسين نظم الري، واستنباط سلالات مقاومة للظروف القاسية.

الطريق إلى هناك ليس سهلًا، لكنه أصبح معلومًا، ممهدًا بتجارب النجاح، ومُضاءً بثقة المُزارع والمُصدر والدولة.

إن ما نُصدّره اليوم للعالم من حاصلات زراعية، هو في حقيقته أكثر من مجرد منتجات، هو جزء من هوية مصرية ضاربة في جذور التاريخ.

فمنذ أيام الفراعنة ونحن نزرع ونحصد ونُخزّن، ونُصدّر عبر النيل وعبر القوافل.

واليوم، نُكمل الرحلة، لكن بأدوات عصرية، وأحلام أوسع، وأسواق أبعد، وطموح لا يعرف سقفًا.

وفي قلب هذه المنظومة، يبقى الفلاح المصري هو البطل الحقيقي.

هو الذي لا يظهر في العناوين، ولا تصوره الكاميرات، لكنه من دون ضجيج، يُمسك بالمعول، ويُتابع النشرة الجوية، ويُراقب موسم الحصاد، ويدعو الله أن يبارك في زرعه.

هو الذي إذا ما خُيّر بين الراحة والمسؤولية، اختار أن يُبلل قدميه في ماء القناة ليروي زرعه قبل أن ينام.

هذه الكلمات، ليست مجاملة، بل اعتراف بالفضل.

فالفلاح الذي يمنحنا الغذاء، ويمنح الوطن التصدير، ويمنح الاقتصاد النمو، يستحق أن يكون في مقدمة الصورة، لا في خلفيتها.

ويستحق أن يشعر بأنه شريك في الإنجاز، لا مجرد أداة فيه.

وهكذا، حين نقول إن مصر تُصدر الزراعة، فنحن في الحقيقة نقول إنها تُصدر الخير، تُصدر الأمل، تُصدر ما يعبر عن شخصيتها العميقة: بلد لا يبخل، وأرض لا تُجحد، وشعب لا يكلّ.

ولعل أجمل ما في هذا الإنجاز، أنه لم يُبهرنا بما تحقق فقط، بل ذكّرنا بأننا نستطيع أكثر، ونستحق أفضل.

وأننا، حين نُحسن إدارة ما نملكه، نستطيع أن نمنح العالم ما يحتاجه، ونمنح أنفسنا ما يليق بنا.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 423 الصادر بتاريخ 7 أغسطس 2025

 

تم نسخ الرابط