الجمعة 23 مايو 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

الزهد في الدنيا.. فلسفة الروح في مواجهة ضجيج الحياة

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- الإنسان عابر سبيل.. والخلود للأثر الطيب

- لم أعد أطيق الزيف.. والعلاقات المتعبة تسقط من قلبي في صمت

- نعيش صراعا مع الوهم .. ولا شىء يعادل الهدوء النفسي وراحة البال

- الحقيقة الوحيدة في هذه الدنيا هي الموت.. والحياة لا تساوي شيئا 

- الزهد فضيلة نادرة في عصر يقدِّس المظاهر

وسط دنيا تتسارع فيها الأحداث، وتتصارع فيها الرغبات، يتوقف الإنسان منا عند نقطة فارقة، يعيد فيها النظر إلى ما حوله، لا بعين السعي الحثيث خلف الماديات، بل بعين التأمل والاتزان، في تلك اللحظة، يبدأ الإنسان التماس معنى الزهد، ليس بوصفه انغلاقا عن الحياة، أو نفورا مما أحل الله، بل كحالة وعي تتجاوز ظاهر الأشياء إلى باطنها، وتفتح نوافذ القلب على معنى الرضا والاكتفاء.

لقد أصبحت أنظر إلى الدنيا بفلسفة مختلفة، بعين باتت ترى الأشياء على حقيقتها، لا على بريقها الزائف، لم أعد ألهث خلف كل ما يُعرض عليّ من فرص، ولا أغترّ ببريق النجاح اللحظي أو التصفيق المؤقت، صرت أميز بين ما هو عابر وما هو باقٍ، بين ما يملأ اليد وما يملأ القلب، أدركت، بعد تجارب كثيرة، أن كل ما نعيشه من صخب وضجيج ومظاهر متضخمة هو مؤقت، وأن الحقيقة الوحيدة التي لا تتبدل هي الموت، ذلك الحد الفاصل الذي لا يساوم ولا يؤجل، والذي يجعلنا جميعا متساوين مهما تفاوتت منازلنا وألقابنا وممتلكاتنا.

في لحظة صدق، تتراءى لك الحياة كما هي مسرح واسع، نحن فيه مجرد عابرين، البعض يمر بخفة وسلام، يزرع خيرا ويترك أثرًا، وآخرون يمرون وهم مشغولون بجمع ما لا يدوم، فلا يتركون شيئًا سوى الغبار خلفهم، لقد أصبحت أقدر اللحظة، أحب الصمت، وأجد في البساطة ما لم أجده في وفرة الخيارات، وأدركت أن الزهد لا يعني أن تعيش فقيرًا، بل أن تعيش غني النفس، مكتفيا، متحررا من سطوة الطمع ومقارنات الآخرين، فكلما ازداد الوعي بقرب النهاية، ازداد السكون، وازداد عشقي للحياة بمعناها الصافي، لا الملوث بأوهام السيطرة والامتلاك، فحين تتغير نظرتك إلى الدنيا، يتغير كل شيء تباعا.. تبدأ بإعادة تقييم علاقاتك، وتُصبح أكثر انتقائية فيمن تمنحهم وقتك واهتمامك، لم أعد أتحمل العلاقات السطحية أو المجاملة التي تُرهق الروح، ولا أُجامل على حساب راحتي أو مبادئي، باتت علاقتي بالناس تقوم على الصدق والعمق، لا على المنافع أو المجاملات.

ما أجمل أن تبحث عن القلوب النقية، التي تحبك لذاتك، لا لما تملك، إنني أصبحت أهرب من كل علاقة تستنزفني أو تدخلني في دوامة من الصراعات النفسية، فقد تغيرت في أسلوب حياتي اليومي، لم أعد أركض في سباق لا ينتهي لإثبات الذات أو تحقيق إنجازات تبهر الآخرين، أصبحت أبحث عن السلام الداخلي، عن روتين بسيط يحمل معنى، عن وقت هادئ مع النفس، عن وجبة مع من أحب، عن لحظة تأمل تُعيد ترتيب الفوضى في داخلي، حتى تفاصيل صغيرة، كالمشي في الصباح أو احتساء فنجان قهوة على مهل، أصبحت أكثر قيمة من أي صخب أو تجمع صاخب لا يشبهني، وهكذا، صار الزهد فلسفتي في العيش، لا هروبًا من الحياة، بل دخولًا فيها من باب أوسع، باب الصدق والوعي والسلام، فالحياة لا تقاس بطولها أو كثرة أحداثها، بل بمدى ما تتركه في القلب من أثر، وبما تمنحه للنفس من رضا وسكينة.

إن الزهد الحقيقي لا يعني الفقر، كما لا يعني الترفع المصطنع عن ملذات الحياة، بل هو موقف داخلي، تنبع فيه القوة من عزوف النفس عن التعلق بما لا يدوم، وإيثار الأثر على الأجر، والمعنى على المظهر، هو انتصار للروح على الجسد، ولليقين على الشك، وللسكينة على الضجيج، لقد أصبح الزهد في زمننا هذا عملة نادرة، لا لندرة موارده، بل لصعوبة ممارسته وسط عالم تحاصره النزعة الاستهلاكية، وتدفعه ثقافة الامتلاك إلى اللهاث المستمر خلف المزيد، ورغم ذلك، يظهر الزهد كقوة هادئة، تتجلى في شخص عادي قد تمر به في الطريق، لكنه يملك من السلام النفسي ما لا تشتريه أموال الدنيا مجتمعة، الزاهد لا يعيش منسحبا من مجتمعه، ولا معتزلا لحياته، بل يعيش الحياة بكامل تفاصيلها، لكن من موقع مختلف، موقع لا يرهقه السعي إلى ما في أيدي الناس، ولا يستنزفه التنافس على المظاهر، هو شخص يملك الأشياء، لكنها لا تملكه، يدخل السوق، ويعبر المدينة، ويخالط الناس، لكن قلبه معلق بما هو أبقى.

في الزهد حكمة تفرض إعادة النظر في أولوياتنا اليومية، هل نعمل لنعيش أم نعيش لنعمل؟ هل تكدس المال غاية أم وسيلة؟ هل كل ما نرغب فيه نحتاجه فعلًا؟ وهل نعرف الفرق بين الرفاهية والتضخم النفسي في التوقعات؟ وهنا، لا بد أن نلفت إلى أن الزهد لا يتعارض مع الطموح أو السعي، لكنه يضع إطارًا أخلاقيا وقيميا لهذا الطموح، بحيث يظل الإنسان في سعيه متزنا، لا يظلم، لا يتكبر، ولا ينسى أن في الحياة ما هو أعظم من النجاح المادى: السكينة، والقناعة، والمحبة، والعطاء، إن الزهد ليس ثوبًا يرتديه الإنسان في لحظة تصوف، بل هو نمط حياة ينمو داخله بمرور الزمن، مع التجارب، والتأمل، والانكسارات أحيانًا، هو إقرار ضمني بأن كل شيء زائل، وأن الأصل في الإنسان أن يكون عابر سبيل، يزرع الخير حيثما حل، ويترك أثرا جميلا خلفه، دون أن يثقل روحه بتعلق لا طائل منه، ولعل هذا النمط من التفكير، وهذا النوع من الوعي، هو ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم، كي تسترد توازنها، وتعيد تقييم مفهوم "النجاح" الذي بات محصورا في المظاهر الخادعة، فالزاهد الناجح هو من امتلك قلبه، وأدار حياته بتوازن، وابتسم للناس دون أن يطلب منهم شيئا، ورضي بما قسمه الله له دون حسد أو ضجر، والزهد لا يقتصر على متدين أو فيلسوف، بل هو متاح لكل من أراد أن يحرر نفسه من قيود الدنيا الزائلة، وينظر للحياة بمنظور لا يسطحها، بل يمنحها عمقًا ومعنى، فالزهد، في جوهره، هو حرية الروح من أسر الجسد، وهو بداية الرحلة نحو الحياة الحقيقية.

لقد تعلمت أن أعيد النظر في كل ما حولي، لا من باب التشاؤم، بل من باب النضج، فالنجاح لم يعد بالنسبة لي أضواء تسلط، بل سكينة تسكن القلب، ولم يعد الغنى كثرة المال، بل غنى النفس، وإن أقصى ما أتمناه الآن، هو أن أظل أمضي في طريقي هذا، بخفة، ورضا، ويقين أن ما عند الله خير وأبقى، هذه الفلسفة، وإن بدت غريبة في زمن الضجيج، إلا أنها وحدها القادرة على منح الإنسان توازنا حقيقيا، ونجاة داخلية لا يعرفها إلا من ذاق مرارة اللهث خلف السراب، ثم توقف، وقرر أن يرى بعيني قلبه لا ببريق العالم، فليكن الزهد دعوة صادقة لقلوبنا المتعبة، بأن تعود إلى ذاتها، أن تصالح ربها، وأن تتذوق حلاوة العيش ببساطة وطمأنينة.

الصفحة السابعة من العدد رقم 413 الصادر بتاريخ 22 مايو 2025
تم نسخ الرابط