«العطاء».. فلسفة الروح في زمن الجحود

- «الكرم» بلا مقابل هو القوة التي تبني الأرواح وتغير المصائر
- الاستغلال وتغليب المصلحة هما الوجه القبيح للأنانية البشرية
- الجحود المتكرر يقتل روح العطاء.. ويُفقد القلوب قيمتها الحقيقية
- العلاقات الحقيقية تقوم على العطاء المتبادل لا على الاستنزاف
- العطاء أساس البناء الاجتماعي.. وقوة المجتمعات في تماسك أرواحها
أحيانا، أجد نفسي أتأمل في هذا العالم السريع، حيث تحسب فيه المشاعر بالورقة والقلم، وتوزن العلاقات بموازين الأخذ والرد، وسط هذا الزخم، يبدو العطاء بلا مقابل كفعل نادر، أشبه بنور خافت في مدينة لا تنام.
أكتب اليوم عن فلسفة العطاء ضمن مجموعة مقالات إنسانية شرعت في كتابتها خلال الفترة الأخيرة، حتى نتشارك فكرة ربما نسينا بساطتها هي: أن تمنح لأنك تريد، لا؛ لأنك تنتظر، أن تعطي بحب، لا بانتظار تصفيق، أن تمد يدك لتساعد، لا لتصفق لك الأيادي.
العطاء، كما عرفته من تجاربي، لا يُفقر، بل يُغني الروح، هو اللغة التي يفهمها الجميع، حتى إن لم تُترجم بالكلمات، ودائما أتساءل: هل ما زال لهذا العطاء مكان بيننا أم أنه أصبح رفاهية لا يقدر عليها إلا الحالمون؟ ففي زحام الحياة وتقلّباتها، وفي زمن طغت فيه الحسابات الدقيقة على المشاعر البسيطة، تظل فلسفة العطاء بلا مقابل أحد أندر وأنبل القيم الإنسانية.
تلك التي لا تُمارس من أجل الظهور، ولا تُقدم على سبيل التفاخر، بل تنبع من نقاء داخلي ورضا ذاتي، يجعل من يمنح، أسعد من الذي يتلقى.
كثيرون اليوم باتوا يمنحون من أجل أن يُردّ لهم الجميل، أو على الأقل يُذكر فضلهم، لكن هناك قلة ما زالت تعطي؛ لأنهم لا يعرفون سواها وسيلة للعيش.
هؤلاء يمنحون بلا مَنٍّ، ويقفون بجانب من يحتاجهم دون أن يدوّنوا في دفاتر حياتهم أرقاما تُسدد لاحقا.
بالنسبة لهم، العطاء ليس صفقة، بل فطرة، فالعطاء ليس مالاً فحسب.
أحيانًا يكون في كلمة طيبة تُرمم قلبًا، أو في وقت يُمنَح لمن ضاقت به السُبل، أو في تواجد صادق لحظة انكسار.
من يمنح بهذا الإخلاص لا ينتظر شيئًا، وربما لا يأتيه التقدير أصلًا، لكنه يمضي مطمئن القلب؛ لأنه أعطى بصدق، واحتسب ذلك عند الله أو ضميره.
إنني أعترف بأن العطاء هو المؤشر الأصدق على بقاء الإنسانية حية داخلنا.
في عالم يزداد جفافًا على مستوى العاطفة، من يمنح دون انتظار المقابل، هو من يذكّرنا بأن الخير ما زال ممكنًا، وأن النُبل ليس ساذجًا، بل شجاعة، كم من مرة أعطيت فيها، وعدت إلى نفسك أخفّ؟ كم من مرة قلت كلمة دعم، فشعرت بقيمتك تتضاعف؟ العطاء الحقيقي يُغنيك نفسيًا، يُطهّرك من الأنانية، ويجعلك أكثر توازنًا.
هو تدريب دائم على الحب، والرحمة، والتسامح، وكل القيم التي تضمن بقاءنا بشرًا.
لكن مع ذلك لا يمنع من أنك تحذر، أن تعطي لا يعني أن تُستغل، أن تكون كريمًا لا يعني أن تصبح متاحًا لكل من يريد أن يأخذ، فلسفة العطاء لا تلغي قيمة التقدير، ولا تُبرر التجاهل أو الإهمال من الآخرين.
امنح، لكن كن حكيمًا.
وازن بين قلبك وعقلك، وامنح حيث يستحق العطاء أن يُمنح، قد لا تجد من يُقدّر عطاءك، وقد لا يقال لك "شكرًا" بما يكفي. لكن العطاء الحقيقي لا يحتاج تصفيقًا.
هو مكافأة في ذاته.
يكفي أن تعرف أنك لم تبخل، ولم تتردد، وأنك كنت إنسانًا وقت كان الكثيرون يتوارون خلف مصالحهم، أعطِ، لأنك قادر؛ لأنك قوي؛ لأنك تمتلك فائضًا من الخير، يمنح العالم – ولو بقدر بسيط – فرصة للنجاة من قسوة لا ترحم.
ولقد عرفت أن العطاء ليس فقط وسيلة لتغيير الآخرين، بل هو أيضًا طريقٌ لتشكيل أنفسنا.
حين تمنح، تتعلم الصبر، والتواضع، والرحمة.
أنت تتربى على تهذيب الذات، وعلى التخفف من الأنا.
كل مرة تمد فيها يدك لتساند أحدهم، تكون في الحقيقة تبني نفسك من الداخل، حين تتحول فلسفة العطاء إلى ثقافة عامة، تجد مجتمعًا متماسكًا، ينهض بعضه ببعض.
فبدلًا من التنافس على المكاسب، يصبح هناك سباق نحو الخير.
المؤسسات تتكافل، الأفراد يتراحمون، والأمل يصبح قيمة جماعية.
العطاء بلا مقابل ليس مثالية حالمة، بل ضرورة لبناء مجتمع صحي ومتزن.
لا شيء يقتل روح العطاء مثل الجحود المتكرر.. من يعطون ويُقابل عطاؤهم بالإهمال أو الخذلان، قد ينكفئون على أنفسهم. لذلك، فإن تقدير العطاء – حتى بكلمة شكر – هو مسؤولية جماعية.
أن نحترم من يعطي، هو جزء من الحفاظ على هذه المنظومة الأخلاقية، وليس شرطًا أن تكون غنيًا لتمنح.
أحيانًا الفقير يعطي بقدر ما يستطيع، بل وأكثر.
العطاء لا يُقاس بما تملكه، بل بما تخرجه من نفسك.
وهو لا يحتاج إلى منصب أو شهرة، بل إلى قلب نقي يشعر بالآخر.
كثيرون يعطون، لكن قلة هم من يمنحون بقلب صافٍ.
هناك من يمنح ليراه الناس، وهناك من يعطي ليُدين الآخرين بعطائه.
لكن القيمة الحقيقية في أن تمنح بصمت، أن تعطي لأنك لا تتحمل أن ترى ألمًا أو عوزًا وأنت قادر على التخفيف منه. هذه هي روح العطاء التي تصنع الفرق.
وللحق فإن الاستغلال وتغليب المصلحة الشخصية هما أكثر وجوه الأنانية البشرية قبحا وتأثيرا سلبيا على العلاقات الإنسانية والمجتمعات بشكل عام، ففي عالم يُفترض فيه أن التعاون والتكافل هما أساس التقدم والازدهار، يظل الاستغلال غصة تعكر صفو أي تعامل إنساني، حيث يستخدم الإنسان الآخر كأداة لتحقيق أهدافه الخاصة دون اعتبار لمشاعره أو حقوقه.
هذا السلوك لا يعكس فقط جحودًا واضحًا بل هو أيضاً خيانة للثقة التي بُنيت على الأمل في العدل والمساواة.
تغليب المصلحة الشخصية على حساب الآخرين يخلق بيئة خصبة للأنانية التي تفتك بروح المجتمع، تهدم الروابط التي تجمع الأفراد، وتزيد من الشعور بالفرقة والعزلة.
علاوة على ذلك، هذا التوجه المصلحي لا يُثري صاحبه إلا بشكل مؤقت ومحدود، بينما يترك آثارًا عميقة من الألم والخذلان لدى من استُغلوا، مما يُضعف النسيج الاجتماعي ويهدد استقرار المجتمعات، ويظل الاستغلال وتغليب المصلحة وجها قبيحا لأنانية لا تفرق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ولا تعي أن السلام والنجاح الحقيقيين لا يتحققان إلا بالتوازن بين الحقوق والواجبات، بين العطاء والأخذ، وباحترام الكرامة الإنسانية للجميع.
وكلما مر الوقت، أزداد يقينا بأن العطاء ليس موقفًا عابرًا، بل أسلوب حياة، طريقا اختاره البعض بإرادتهم الكاملة، رغم قسوة العالم من حولهم.
اخترت أن أكون من هؤلاء، لا؛ لأنني أبحث عن امتنان، بل؛ لأن العطاء ببساطة يُشعرني بأنني ما زلت إنسانًا، في عالمٍ بدأ يتجرد من إنسانيته، كم مرة منحت دعمًا لمن لم يسأل؟ كم مرة قلت كلمة طيبة لمن لا ينتظرها؟ كم مرة أعطيت وقتك أو قلبك أو مجهودك دون أن تضعه في ميزان المكافأة؟
نعم، في بعض اللحظات تشعر وكأن عطاءك ذهب سُدى، وكأنك تعبت دون مقابل، لكن لا يضيع شيء..أعطِ من القلب، فالعطاء، لو لم يعد إليك من نفس الباب، فسيعود إليك من أبواب أخرى: راحة، رضا، أو دعوة خفية من قلب لا تعرفه.
تعلمت أن أُعطي حتى في أقسى لحظاتي؛ لأنني لا أريد أن تشوهني قسوة الآخرين.
لا أريد أن أتوقف عن أن أكون كما أنا: شخص يرى في العطاء معنى، وفي المنح طمأنينة، وفي الكرم جمالًا لا يُقارن، وفي النهاية، تبقى القاعدة الأجمل: لا تتوقف عن العطاء، فقط غيّر وجهتك حين يؤلمك العطاء في غير موضعه.
امنح نفسك أيضًا، وامنح من يستحق، لكن لا تطفئ نورك؛ لأن أحدهم لم يُقدّره. أنت لا تُعطي لأجلهم.. أنت تُعطي لأنك أنت.
