شاهيناز العقاد ..سيدة الفن التي أعادت للسينما العربية بريقها

- منتجة تكتب التاريخ من خلف الكاميرا.. نموذج لامرأة تصنع الفن بإيمان
- منتجة عربية تقود ثورة فنية هادئة.. حين تصبح السينما رسالة لا تجارة
- منحت السينما العربية جرأة السؤال وجمال الفكرة وتبني جسرًا بين المهرجانات والجمهور
في زمن تتسارع فيه الإيقاعات وتغيب فيه الرؤية الواضحة بين الفن والتجارة، تبرز أسماء قليلة استطاعت أن تحافظ على وهج السينما العربية وتعيد إليها احترامها، ليس فقط بإنتاج أفلام ناجحة، بل بتقديم محتوى يعبّر عن الإنسان ويحتفي بالحياة.
من بين هذه الأسماء، تتألق المنتجة المصرية شاهيناز العقاد، التي يمكن وصفها بأنها "امرأة تؤمن بأن الفن رسالة لا صفقة"، وأن السينما ليست مجرد صناعة بل مسؤولية تجاه الوعي والوجدان الجمعي.
شاهيناز العقاد ليست مجرد منتجة تقف خلف الكاميرا، بل عقلٌ مُبدع يرى في كل مشروع فني فرصة لقول شيء جديد.
تنتمي إلى جيل من المنتجين الذين اختاروا أن تكون السينما طريقًا للتغيير لا للترف، ولذا لم يكن غريبًا أن تتصدر قوائم الأكثر تأثيرًا في السينما العربية، وأن تُدرج ضمن قائمة الـ101 شخصية الأبرز في هذه الصناعة على مستوى الوطن العربي، بفضل إسهاماتها التي تجاوزت الحدود المصرية إلى فضاء عربي واسع.

من إدارة الأعمال إلى صناعة الأحلام
رحلة العقاد مع السينما لم تبدأ في قاعات التصوير، بل في عالم مختلف تمامًا، إذ كانت تنشط في إدارة الأعمال وقطاع الضيافة قبل أن تكتشف أن شغفها الحقيقي يكمن في الفن.
تقول في أحد حواراتها: "أنا لم أختر الإخراج أو التمثيل لأن لكل مجال موهبته الخاصة، لكني وجدت نفسي في الإنتاج، لأنه المجال الذي يمنحني حرية الاختيار والرؤية والإبداع.".
ومنذ تلك اللحظة، تحولت شاهيناز العقاد إلى أحد أبرز الأسماء في مجال الإنتاج العربي.
أسست مجموعة "لاجوني" Lagoonie، التي تضم تحت مظلتها شركة Lagoonie Film Production & Distribution، لتصبح واحدة من العلامات الفارقة في الإنتاج السينمائي العربي خلال السنوات الأخيرة.
سينما تحمل رسالة.. وأحلام بلا حدود
منذ انطلاقتها، وضعت شاهيناز العقاد لنفسها قاعدة ثابتة: لا تدخل عملًا إلا إذا كان يحمل قيمة فنية وإنسانية.
ترفض فكرة أن "الجمهور عاوز كده"، وتؤمن بأن على الفنان أن يقدّم للجمهور ما يحتاج أن يراه لا ما اعتاد عليه.
لذلك جاءت أفلامها متنوّعة في الشكل والمضمون، تراوحت بين الاجتماعي والإنساني والسياسي، لكنها التقت جميعها عند نقطة واحدة: الصدق.

شاركت العقاد في إنتاج عدد من الأفلام التي أصبحت علامات فارقة في السينما العربية الحديثة، منها "ريش" للمخرج عمر الزهيري، و"أميرة" لمحمد دياب، و"صالون هدى" لهاني أبو أسعد، وعلم لفراس خوري، إلى جانب أفلام أخرى مثل فرق خبرة ورأس السنة وأعز الولد، وكلها أعمال جمعت بين الحس الفني العميق والقدرة على الوصول إلى الجمهور.
وتقول العقاد عن فلسفتها في الإنتاج: "الأفلام التي لا تحقق مكاسب لا تُعتبر خاسرة طالما تحمل رسالة.
لكن هدفي دائمًا أن تصل الرسالة إلى أكبر عدد ممكن من الناس، لأن الفن بلا جمهور يصبح صدى لا صوت له.".
ريش وأميرة.. بوابة العالمية
شكّلت تجربة فيلم ريش محطة مهمة في مسيرة شاهيناز العقاد، إذ مثّل هذا العمل المصري نقلة نوعية في مسار السينما العربية المستقلة.
حصل الفيلم على جوائز دولية مرموقة، ولاقى ترشيحًا لجوائز الأوسكار، وفتح الباب أمام موجة جديدة من الإنتاجات المصرية التي تنطلق من المحلية نحو العالمية.

الأمر ذاته ينطبق على فيلم أميرة، الذي شاركت في إنتاجه، وتناول قضية حساسة بجرأة فنية عالية.
ورغم الجدل الذي أثاره، فإن العقاد ظلت مؤمنة بحق الفن في طرح الأسئلة الصعبة.
وهي تؤكد دائمًا أن الجدل ليس هدفًا في ذاته، بل وسيلة لتحفيز التفكير: "كنت أقول دائمًا إنني لا أخاف الجدل، لكن في عصر السوشيال ميديا أصبحت أكثر حذرًا، لأن ردود الأفعال السريعة قد تُفقد النقاش عمقه الحقيقي.".
المرأة في قلب مشروعها الفني
واحدة من السمات المميزة في تجربة شاهيناز العقاد هي اهتمامها الكبير بالبطولة النسائية.
فهي لا تقدم المرأة كعنصر ثانوي في الدراما، بل كقوة فاعلة وصاحبة قرار.
تركز في أعمالها على قصص النساء اللاتي يخضن معارك الحياة في صمت، وتبحث عن النماذج التي تستحق أن تُروى قصصها بصدق وكرامة.
لم تكتف العقاد بتقديم المرأة المصرية في أفلامها، بل وسّعت اهتمامها ليشمل المرأة العربية في تجلياتها المختلفة.
ففي خطوة لافتة، أعلنت عن إنتاج ثلاثة أفلام سعودية طويلة بالتعاون مع المنتج السعودي صلاح أبو حمص، تدور جميعها حول قصص حقيقية لنساء سعوديات.
الأفلام هي أبو قمرة، الذي يسرد قصة فنان سعودي وعلاقته بابنته، وبلارينا، المستوحى من قصة أول راقصة باليه سعودية مؤثرة، وديتوكس، وهو فيلم ذو بعد إنساني نسائي كتبه مصطفى البربري.
تقول العقاد عن المشروع: "يُعرف عني دعمي الدائم لقضايا المرأة، لكن هذه المرة أردت أن أقترب من المرأة السعودية لأقدم قصصًا لم نكن نعرف عنها الكثير.
نحن نرصد تحوّلًا اجتماعيًا وثقافيًا يستحق أن يُوثق فنيًا.".
من مصر إلى العالم.. ومهرجانات تتحدث باسمها
حضور شاهيناز العقاد لم يعد محليًا فقط، بل تخطى حدود العالم العربي.
فقد شاركت أفلامها في كبرى المهرجانات الدولية مثل تورونتو، البندقية، الجونة، القاهرة، ومراكش.
وكان لشركتها حضور قوي في ورش الدعم السينمائي الدولية، مثل Venice Production Bridge وCairo Film Connection، حيث حصدت مشاريعها جوائز عديدة عن مراحل التطوير وما بعد الإنتاج.

فيلمها "إن شاء الله ولد"، للمخرج أمجد الرشيد، فاز بثلاث جوائز في مهرجان البندقية، كما حصل على جائزة مرحلة ما بعد الإنتاج من مهرجان مراكش، ليؤكد أن رؤيتها الإنتاجية لا تقتصر على الحدود الجغرافية، بل تمتد نحو كل تجربة تحمل روحًا فنية صادقة.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يفوز فيلم "علم" بثلاث جوائز في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (أفضل فيلم، وأفضل ممثل، وجائزة الجمهور)، فقد جاء هذا التتويج تتويجًا لمسيرة من الإصرار على الجودة.
تقول العقاد: "أؤمن بأن السينما العربية مليئة بالمواهب التي تستحق أن تُعرف عالميًا، فقط تحتاج إلى من يمنحها الثقة والمنصة.
دوري هو أن أكون هذا الجسر.".
سينما تحترم عقل المشاهد
من يتأمل اختيارات شاهيناز العقاد يكتشف أن كل فيلم من إنتاجها يحمل فكرة جديدة لا تشبه الأخرى.
هي لا تؤمن بالنسخ أو التقليد، بل تسعى دائمًا لتجريب مساحات مختلفة من السرد والموضوعات.
فمرة تقدم دراما اجتماعية عن العلاقات الإنسانية، ومرة تناقش قضايا الهوية، ومرة تدخل عالم الفانتازيا أو الرمزية، لكنها في كل مرة تحافظ على رقيّ الطرح.
وتحرص العقاد على أن تكون شركتها منصة لدعم الإبداع المستقل.
تشارك في تمويل أفلام جديدة لمخرجين شباب، وتمنح جوائز في المهرجانات الكبرى لمشاريع عربية طموحة.
هذه السياسة جعلت منها رمزًا للإنتاج الذكي الذي يوازن بين الفن والاقتصاد، وبين الطموح والواقعية.
تقول في أحد لقاءاتها: "النجاح في السينما ليس ضربة حظ، بل نتيجة تراكم.
علينا أن نتعلم من كل تجربة، وأن نفهم جمهورنا دون أن نُسلم له عقولنا.".
شراكات فنية تتحدث بلغات متعددة
العقاد لا تنظر إلى السينما على أنها حرفة مصرية فقط، بل تراها لغة عالمية.
لذلك تسعى باستمرار إلى التعاون مع جهات إنتاجية من أوروبا والعالم العربي.
شركات فرنسية وتونسية وسعودية وقطرية شاركتها في إنتاج العديد من الأعمال التي جابت المهرجانات الدولية.
هذه الرؤية العابرة للحدود جعلتها من أبرز المنتجين الذين يسعون إلى تدويل السينما العربية، أي جعلها جزءًا من التيار العالمي دون فقدان هويتها.

وهي تقول دائمًا: "الفيلم العربي يمكن أن يصل إلى كل مكان إذا كان صادقًا.
الصدق لا يحتاج ترجمة.".
نظرتها للمستقبل.. وآمالها في جيل جديد
برغم نجاحها الكبير، فإن شاهيناز العقاد ترفض فكرة الركون إلى المجد.
ترى أن السينما العربية لا تزال في مرحلة نضوج تحتاج إلى الدعم والتجريب والمغامرة. وتقول: "لا أتوقع شيئًا، لكن عندي آمال كبيرة.
نحن اليوم نناضل في وقت صعب، لكن المواهب موجودة، والأحلام لا تموت.".
وتوجّه نصيحة دائمة إلى الشباب الذين يدخلون هذا المجال: "ألا يضجروا.
فالشخص الذي يدخل عالم السينما يعرف صعوباته، لكن عليه أن يتكيّف ويتعلم كيف يريح نفسه داخل هذا الصخب. النجاح يحتاج صبرًا طويلًا وإيمانًا بما تفعل.".
امرأة تُشبه أفلامها
حين تتحدث مع شاهيناز العقاد، تشعر أنك أمام سيدة تؤمن بأن الجمال موقف، وأن الفن فعل مقاومة.
مزيج من الرقة والصلابة، من الحلم والإصرار، من الواقعية والرؤية.
إنها واحدة من هؤلاء الذين يكتبون أسماءهم في ذاكرة السينما لا بالحروف، بل بالأفكار.
هي لا تلهث وراء الأرقام ولا تركض خلف الشهرة، بل تزرع بصمتها في كل عمل تتبناه، لتقول من خلاله إن السينما ما زالت قادرة على أن تُحدث فرقًا.
شاهيناز العقاد هي النموذج النادر لمنتجة لا تكتفي بتمويل الأفلام، بل تؤمن بها، تعيشها، وتدافع عنها كما لو كانت أبناءها.
ولذلك، حين يُذكر اسمها في أي مهرجان أو على تترات الأفلام العربية، يُذكر معه احترامٌ كبير، لأن وراءه امرأة آمنت بأن الفن يمكن أن يغيّر العالم.. ولو بفيلم واحد.
