الأنانية.. وباء صامت يدمر العلاقات ويقتل الإنسانية

- حب الذات المفرط مرض مزمن يهدم الاحترام ويقضي على المحبة بين الناس
- الأناني لا يرى إلا نفسه ويختزل العالم في رغباته دون اعتبار لمشاعر الآخرين
- الوجوه القريبة لا تعني صدق النوايا.. والأقنعة الزائفة تخفى وراءها قلوبا لا تعرف الإخلاص
- العطاء.. أرقى ما في العلاقات الإنسانية وهو سر التواصل الحقيقي وبناء الثقة الدائمة
أكتب اليوم عن واحدة من أكثر السلوكيات التي تهدد العلاقات الإنسانية، وتفتك بالمودة، وتغتال الاحترام وهى الأنانية، لا أتحدث هنا عن ذلك القدر الطبيعي من حب الذات، الذي يحفظ كرامة الإنسان ويصون استقلاله، بل عن الوجه القبيح من الأنانية.. ذاك الذي يتخفى خلف الأقنعة ويطل بوجهه الحقيقي حين تتعارض المصالح، أو يطلب العطاء، أو يمتحن الوفاء.
كلما تأملت في علاقاتي السابقة، وفي تلك اللحظات التي شعرت فيها بالخذلان، أعود لأدرك أن أكثر ما كان يؤلمني لم يكن الغدر، ولا حتى الخسارة، بل الشعور بأنني كنت أتعامل مع أشخاص لا يرون فيَّ إلا وسيلة، كنت موجودًا فقط عندما احتاجوا لوجودي، وغائبا عن قلوبهم عندما احتجت أنا إلى القرب والدعم.
الأنانية ليست مجرد صفة سيئة نطلقها على الآخرين، بل هي سلوك مؤذٍ يدمر العلاقات من الداخل، هي تلك الكلمة التي لم تقَل حين احتجناها، وذلك الصمت البارد في لحظة كان العناق فيها أبسط أشكال الحب، وهي ذلك الصديق الذي يتوارى حين تضيق الدنيا، ويعود فقط حين تتسع ظروفه.
أكتب هذه السطور، لا لأحاكم أحدًا، بل لأتطهر من أثرهم داخليا، أكتب كي أتذكر أنني أعطيت من قلبي، بصدق، دون أن أطلب مقابلًا، لكني أرهقت من محاولات إرضاء من لا يشبع، ومن منح الحب لمن لا يعرف إلا أن يأخذ.
تعبت من التماس الأعذار لسلوكيات ما كانت يوما حبا، بل كانت أنانية مغطاة بغلاف من المجاملات أو الادعاء.
كلنا، في لحظة ما، صادفنا هذا الشخص الذي لا يرى إلا نفسه، يطلب الكثير ولا يمنح إلا القليل، يغضب إن تأخرت عليه دقيقة، ولا يشعر بالذنب إن تأخر عليك يومًا.
الأناني لا يستوعب أنك شخص له مشاعر أيضًا، له أوقات ضعف، وله حاجات، تمامًا كما له هو.
بل إنه يرى في أي اهتمام تمنحه لغيره نوعًا من الخيانة العاطفية، الأناني يعتقد أن ما يفعله "حق مكتسب"، وأنه أحق من الجميع بالراحة والاهتمام والتقدير، وأن العالم يدور حوله.
في علاقات الصداقة، هو الصديق الذي لا يتصل إلا حين يحتاج، وفي الحب، هو الشريك الذي يطلب التفهم دون أن يفهم، ويطالب بالاحتواء وهو أول من يتخلى.
ما يجعل الأمر أكثر قسوة أن الأناني المرضي لا يعترف بأنانيته، بل يغلفها بحجج كاذبة: "أنا واضح"، "أنا صريح"، "أعرف ما أريده".. بينما هو في الحقيقة لا يرى غير نفسه، ويعجز عن مشاركة الحياة بروح عادلة مع الآخرين.
ربما ساهمت "الموضات النفسية" الحديثة في تغذية هذا السلوك، حين أصبحت عبارات مثل "اهتم بنفسك أولًا" و"ضع حدودًا مع الجميع" تُفهم بطريقة مشوهة، حتى أصبحت الأنانية تسوّق أحيانًا على أنها قوة شخصية أو نضج نفسي.
الحقيقة أن الفرق كبير بين أن تحمي نفسك، وأن تؤذي الآخرين باسم "الراحة النفسية"، واحدة من أخطر علامات الأنانية أنها تقتل التعاطف، الأناني لا يعرف كيف يفرح لنجاح غيره، بل يشعر بأن كل إنجاز لغيره انتقاص من قيمته.
هو لا يحب أن يراك سعيدًا إلا إذا كان هو أكثر سعادة، ولا يريدك ناجحًا إلا إذا كنت أقل منه.
في لحظات حزنك، قد لا تجده، لأن وجوده قائم على المصالح، لا على الود الحقيقي.
وإن وجدتَه، فهو هناك ليقول كلمته، لا ليسمع كلمتك. في حياته، الأولوية دائمًا له، ثم له، ثم ربما يأتي الآخرون إن لم تتعارض مصالحهم مع راحته.
مؤلم أن تكتشف أن من أحببت لم يكن يرى فيك إلا "خدمة"، أو "راحة"، أو مجرد محطة للحديث، ثم حين تشكو أو تطلب، يصير صبرك ثقلًا عليه. الأناني ينسحب فور أن يشعر بأن عليه أن "يمنح" بدلًا من أن يأخذ فقط.
وهنا، يصبح الانسحاب شكلاً من أشكال العقاب العاطفي، وكأن وجوده كان "منة"، لا علاقة.
ربما لا يمكن تغيير الشخص الأناني بسهولة، لأنه لا يرى خطأه أصلًا، لكنه قد يتوقف حين يخسر من يحب، أو يدرك فجأة أنه صار وحيدًا.
أما نحن، فعلينا أن نتعلم متى نمنح، ومتى نتوقف عن العطاء لمن لا يرى إلا نفسه. أن نحب بكرامة، ونُساند بوعي، ونُدرك أن من لا يرى فينا سوى وسيلة، لا يستحق أن نكون له حياة.
إنني أكتب هذا المقال من واقع تجارب، لا تنظير، رأيت الأنانية تفسد صداقات، وتطفئ حبا، وتنهك علاقات أسرية، وما زلت أؤمن بأن أرقى ما في العلاقات الإنسانية هو العطاء المتبادل، لا العطاء الموجه لشخص لا يعرف إلا أن يأخذ، احمِ نفسك من الأنانيين، فحب الذات حق، لكن الأنانية عدوان ناعم لا يُرى إلا بعد فوات الأوان.
في حياتي القادمة، سأنتبه، لن أكره، لن أنتقم، لكنني سأتوقف عن منح نفسي لمن لا يراها جديرة بالاحتواء، سأتعلم أن من يحب بصدق، لا يستهلكك، ولا يراك مجرد ظل، سأتذكر أن العلاقات الحقيقية تقوم على التبادل، لا الاستنزاف، على التعاطف، لا الاستغلال، ولك، أيها القارئ، إن كنت مررت بتجربة مشابهة، أقول: أنت لست وحدك.
هناك الكثير من الأرواح الجميلة، فقط لا تضيع وقتك مع من لا يراك إلا عند الحاجة.
احمِ قلبك، لا تقسُ عليه، ولا تسمح لأحد بأن يستبيح طاقتك باسم الحب أو الصداقة أو القرابة، الحياة أقصر من أن نعيشها محاطين بأنانيين، وأجمل من أن نهدرها في إرضاء من لا يرضى.
