«أخيرًا .. تصحيح جريمة وعد بلفور» .. كيف قادت مصر العالم للإعلان عن دولة فلسطين؟

محمود الشويخ - صورة
محمود الشويخ - صورة أرشيفية

- لماذا قرر الرئيس الفرنسى ماكرون الاعتراف بالدولة الفلسطينية رغم غضب وتهديدات نتنياهو؟

- ما سر قول الصحافة الإسرائيلية: السيسي يزلزل الأرض تحت أقدام إسرائيل؟

في لحظة فارقة من التاريخ الحديث، ومع اشتداد ألسنة اللهب في غزة وتصاعد الغضب الشعبي والرسمي حول العالم، جاء “طوفان الاعتراف” بدولة فلسطين ليشكل منعطفاً إستراتيجياً جديداً في الصراع العربي- الإسرائيلي، وصدمة سياسية غير مسبوقة لحكومة بنيامين نتنياهو.

فما بين عواصم كبرى مثل باريس ولندن وعواصم أوروبية وأمريكية لاتينية أخرى، وجد العالم نفسه أمام موجة متسارعة من الاعترافات الرسمية بدولة فلسطين، موجة لم تكن وليدة الصدفة، بل ثمرة جهود دبلوماسية مضنية قادتها مصر في أروقة الأمم المتحدة ومجالس القرار الدولية.

منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، بدت القاهرة أكثر حضوراً وفاعلية من أي وقت مضى، مستثمرة ثقلها الإقليمي وتاريخها الطويل في إدارة الملف الفلسطيني، لتصبح رأس الحربة في إعادة إحياء مسار الحل السياسي.

وفي الوقت الذي حاولت فيه إسرائيل فرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية، تحركت الدبلوماسية المصرية بخطوات محسوبة ومدروسة، لتبني جبهة دولية واسعة تضع العالم أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية.

وهكذا تبلورت لحظة الإعلان المتتابع عن الاعتراف بدولة فلسطين، لحظة أطلق عليها المراقبون “الزلزال الدبلوماسي” الذي ضرب إسرائيل في قلب مشروعها السياسي.

لم يكن الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطين حدثاً عابراً.

فقرار الرئيس إيمانويل ماكرون حمل دلالات عميقة، ليس فقط؛ لأنه جاء من دولة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن، بل؛ لأنه مثّل تحدياً مباشراً للضغوط والتهديدات التي مارسها نتنياهو.

ورغم إدراك باريس حدة الأزمة الدبلوماسية التي قد تنشأ مع تل أبيب وواشنطن، فإن ماكرون اختار أن يضع فرنسا في صف القيم العالمية والعدالة التاريخية.

وقد فاجأ قراره المراقبين حين قال لمقربين منه إن الاعتراف لم يعد خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة أخلاقية وأمنية لضمان استقرار الشرق الأوسط.

ومن هنا يمكن فهم إصراره على المضي قدماً رغم الغضب الإسرائيلي والتهديدات العلنية والسرية التي صدرت عن مكتب نتنياهو.

لكن الأكثر إثارة للانتباه هو التحول البريطاني، الذي أعاد إلى الذاكرة وعد بلفور بكل ما يحمله من مرارة تاريخية للفلسطينيين والعرب.

فقد بدت لحظة اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين وكأنها تصحيح متأخر، أو محاولة لتخفيف عبء ذلك الوعد المشؤوم الذي وضع أساس المأساة.

ولعل ما يفسر تغير الموقف البريطاني الآن هو إدراك لندن أن استمرار الاحتلال يهدد مصالحها الإستراتيجية ويغذي موجات الغضب الشعبي داخلها، فضلاً عن الضغط الأوروبي المتصاعد لتوحيد المواقف تجاه الحرب في غزة.

وهكذا وُصف القرار البريطاني في بعض الدوائر بأنه “اعتذار عملي” عن خطيئة الماضي، وإن كان لا يمحو جراح قرن كامل من المعاناة الفلسطينية.

على الضفة الأخرى، لم يكن التغيير الأوروبي مفاجئاً تماماً.

فمنذ سنوات، بدأت بعض العواصم الأوروبية تميل إلى الاعتراف بفلسطين أو دعم حل الدولتين بشكل أكثر وضوحاً، لكن الحرب الأخيرة في غزة، وما تخللها من صور الدمار والمجازر، سرعت هذه التحولات.

الصحافة الأوروبية لعبت دوراً مهماً في تعبئة الرأي العام، حيث امتلأت الشوارع بالمظاهرات المؤيدة لفلسطين، وهو ما فرض ضغطاً متزايداً على الحكومات، حتى تلك المعروفة بتحالفها الوثيق مع إسرائيل.

وقد وجدت هذه الحكومات نفسها أمام خيارين: إما الاستمرار في التواطؤ مع الاحتلال، وإما الانصياع لصوت الضمير العالمي.

أما الدور المصري، فقد كان حاضراً بقوة في كل هذه التحولات.

فخلال الشهور الأخيرة، كثفت القاهرة لقاءاتها مع العواصم المؤثرة، من واشنطن إلى بروكسل، ومن باريس إلى موسكو، مؤكدة أن أي تسوية مستقبلية لا بد أن تبدأ بالاعتراف الواضح والصريح بدولة فلسطين على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

واستطاعت مصر أن تخلق توازناً بين خطابها السياسي الحازم وتحركاتها العملية على الأرض، عبر رعاية الهدن المؤقتة، وإدخال المساعدات الإنسانية، والضغط لفتح المعابر.

هذه الجهود أكسبت القاهرة مصداقية عالية جعلت كثيراً من الدول تنظر إليها باعتبارها “الضامن الحقيقي” لأي عملية سياسية جادة.

ولم يكن غريباً أن تتحدث بعض الصحف الإسرائيلية عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعبارات صادمة للشارع الإسرائيلي، حين قالت إنه “يزلزل الأرض تحت أقدام إسرائيل”.

فالخطوات المصرية الأخيرة أحرجت تل أبيب على أكثر من مستوى: أولاً، لأنها أظهرت أن إسرائيل لم تعد قادرة على منع العالم من اتخاذ خطوات اعتراف جماعية؛ وثانياً، لأنها أعادت للقاهرة موقع القيادة في الملف الفلسطيني بعد سنوات من محاولات التهميش؛ وثالثاً، لأنها أعطت زخماً جديداً للشرعية الفلسطينية التي حاولت إسرائيل طمسها.

ردود الأفعال داخل إسرائيل كانت مرتبكة وغاضبة في آن واحد.

فبينما خرج نتنياهو ليصف الاعترافات بأنها “خطأ تاريخي” سيعرقل مسار السلام، حذرت أصوات إسرائيلية أخرى من أن الاستمرار في التعنت قد يدفع مزيداً من الدول إلى الانضمام لطوفان الاعتراف، ما قد يضع إسرائيل في عزلة دولية خانقة.

أما الشارع الإسرائيلي، فقد انقسم بين من يرى في هذه التطورات تهديداً وجودياً لمشروع الدولة اليهودية، ومن يعتقد أن الوقت قد حان للقبول بحل الدولتين باعتباره السبيل الوحيد للخروج من المأزق.

على الجانب الفلسطيني، جاءت ردود الأفعال مزيجاً من الفرح واليقظة.

فالاعترافات الدولية عززت من موقع القيادة الفلسطينية، لكنها في الوقت ذاته وضعت تحديات جديدة، أبرزها كيفية تحويل هذا الاعتراف إلى واقع عملي على الأرض.

فالفلسطينيون يدركون أن الاعتراف وحده لا ينهي الاحتلال، لكنه بلا شك يعيد القضية إلى صدارة الأجندة الدولية بعد سنوات من محاولات التهميش.

هنا يظهر التحدي الأكبر: كيف يمكن تحويل الدعم الدولي إلى خطوات عملية توقف الاستيطان وتؤدي إلى انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة؟

المشهد الأوسع يعكس أن العالم بدأ يغيّر معادلاته.

فالتغطية الإعلامية العالمية لمجازر غزة، وحملات التضامن الشعبي في العواصم الغربية، وضغوط الرأي العام، كلها ساهمت في خلق بيئة سياسية جديدة دفعت الحكومات للتحرك.

وفي هذا السياق، برزت مصر كلاعب رئيسي، مستفيدة من رصيدها التاريخي وموقعها الجغرافي وقدرتها على التواصل مع جميع الأطراف.

وبذلك، فإن القاهرة لم تعد مجرد وسيط بل صارت “مهندس الاعتراف” الذي أعاد طرح القضية الفلسطينية على الطاولة الدولية بقوة غير مسبوقة منذ عقود.

وإذا عدنا إلى التاريخ، فسنجد أن الاعتراف بفلسطين طال انتظاره.

فمنذ إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، سارعت أكثر من 130 دولة للاعتراف بالدولة الوليدة، لكن الدول الكبرى في الغرب ظلت مترددة، تحت وطأة النفوذ الأمريكي والإسرائيلي.

اليوم، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً، يبدو أن عجلة التاريخ بدأت تدور في اتجاه مغاير، لتعيد الاعتبار لحقوق الفلسطينيين المسلوبة، وتؤكد أن قوة الحق قد تغلب في النهاية على حق القوة.

ومع كل هذه التطورات، يبدو أن نتنياهو تلقى صفعة سياسية مدوية.

فمشروعه القائم على تجاهل الفلسطينيين وفرض حلول أحادية بالقوة العسكرية أصبح مهدداً.

والأهم من ذلك، أن إسرائيل لم تعد قادرة على الاعتماد فقط على الغطاء الأمريكي، بعدما بدأ حلفاؤها التقليديون في أوروبا يرفعون صوتهم بالاعتراف بفلسطين.

هذه التحولات لا تعني أن الدولة الفلسطينية ستقوم غداً، لكنها تعني أن ميزان القوى السياسي والدبلوماسي لم يعد كما كان، وأن مشروع الاحتلال يواجه أكبر تحدٍّ منذ عقود.

في الختام، يمكن القول إن “طوفان الاعتراف” لم يكن مجرد خطوة دبلوماسية، بل كان تعبيراً عن لحظة وعي عالمي متزايد بأن استمرار الاحتلال لم يعد مقبولاً ولا قابلاً للاستمرار.

وبقدر ما مثلت هذه الاعترافات صفعة لنتنياهو وحكومته، فقد جسدت أيضاً نصراً دبلوماسياً تقوده مصر، التي أعادت التذكير بأن مفتاح السلام العادل والشامل يمر عبر القاهرة.

وما بين باريس ولندن ونيويورك والقاهرة، يعاد رسم خريطة الصراع بخطوط جديدة، قد تفتح الباب أمام واقع مختلف طال انتظاره، واقع تتجسد فيه دولة فلسطين كحقيقة سياسية لا يمكن إنكارها.

الصفحة الثانية من العدد رقم 430 الصادر بتاريخ 25 سبتمبر 2025
تم نسخ الرابط