مصر تنتصر على البطالة وتصنع الأمل

- انخفاض البطالة في مصر إلى 6.1% يعكس نجاح السياسات الاقتصادية
- قصص إنسانية وراء الأرقام: فرص عمل جديدة تغير حياة الشباب
- زيادة المشتغلين 223 ألفًا في ثلاثة أشهر مؤشر على تعافي سوق العمل
- التراجع البطيء للبطالة ثمرة جهد ضخم واستثمارات متواصلة
- مفارقة الأرقام: البطالة في الريف أقل من المدن الكبرى
- معركة البطالة مستمرة… الطريق مفتوح لكن المستقبل يتطلب ابتكارًا واستثمارًا
قوة أي مجتمع لا تُقاس بعدد سكانه أو بحجم موارده الطبيعية أو حتى بمساحته الجغرافية، وإنما تُقاس بقدرته على أن يوفّر لأبنائه فرص العمل الكريمة التي تحفظ لهم كرامتهم وتمنحهم إحساسهم بقيمتهم الإنسانية.
فالعمل ليس مجرد دخل مادي يسعى إليه الإنسان آخر كل شهر، بل هو حياة كاملة تُبنى على أساس من الثقة بالنفس والشعور بالجدوى والانتماء.
ولعلّ ما أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء مؤخرًا من انخفاض نسبة البطالة إلى 6.1% في الربع الثاني من عام 2025 هو دليل حيّ ورسالة واضحة بأن مصر تمضي في طريقها الصحيح نحو مستقبل أكثر إشراقًا، وأن ثمة تغييرًا حقيقيًا يحدث على أرض الواقع.
توقفت طويلًا أمام هذه الأرقام، لا بوصفها نسبًا جامدة كما يراها البعض، وإنما باعتبارها مرآة تعكس قصصًا إنسانية نابضة.
فعندما يقال إن معدل البطالة تراجع بنسبة 0.2% في ثلاثة أشهر، فهذا يعني أن آلاف الشباب الذين كانوا ينتظرون في صمت أصبحوا اليوم يستيقظون صباحًا ليذهبوا إلى أعمالهم، يعودون آخر النهار وقد أنهكهم التعب لكن يغمرهم شعور بالرضا لأنهم وجدوا مكانًا في دورة الحياة.
إنه يعني أن بنات كثيرات انتظرن طويلاً وجدن أخيرًا فرصة يثبتن بها ذواتهن، وأن رجالًا كانوا يبحثون عن بارقة أمل وجدوا الطريق أمامهم مفتوحًا ليعولوا أسرهم ويطمئنوا على مستقبل أبنائهم.
لقد لفت انتباهي الرقم الذي يشير إلى زيادة عدد المشتغلين بنحو 223 ألف شخص في ثلاثة أشهر فقط.
هذه الزيادة ليست مجرد رقم اقتصادي، وإنما هي مؤشر على أن السوق أصبحت أكثر جذبًا للعمالة، وأن عجلة الاقتصاد تدور بشكل أسرع.
وفي المقابل، انخفض عدد المتعطلين بنحو 57 ألف شخص، وهو ما يعكس صورة واضحة المعالم: هناك من يجدون فرصًا جديدة، وهناك أبواب كانت موصدة بدأت تُفتح.
قد يرى البعض أن التراجع في البطالة بنسبة ضئيلة ليس بالأمر الكبير، لكن المتأمل يدرك أن أي انخفاض ولو بسيط في معدلات البطالة هو ثمرة جهد ضخم، لأن هذه النسب لا تنخفض بسهولة.
البطالة قضية معقدة ترتبط بالاستثمارات، بالقطاع الخاص، بالمشروعات القومية، وبالقرارات الاقتصادية التي تُتخذ يوميًا.
ولذلك فإن الانخفاض المستمر ولو بمعدلات صغيرة يؤكد أن السياسات الاقتصادية تسير في الاتجاه الصحيح.
كما استوقفني الرقم الذي يخص بطالة الذكور، إذ بلغت 3.5% فقط، وهو رقم منخفض جدًا بالمقارنة مع معدلات البطالة في دول كثيرة حولنا.
غير أن الأمر الذي يحتاج إلى وقفة جادة هو معدل البطالة بين الإناث، والذي بلغ 15.8%.
صحيح أن النسبة تراجعت مقارنة بما سبق، لكنها تظل مرتفعة.
وفي تقديري أن المرأة المصرية ما زالت بحاجة إلى دعم أكبر وإلى فتح آفاق أوسع أمامها، فهي طاقة حقيقية لو أُتيح لها المجال لأحدثت فارقًا عظيمًا.
ومن الملاحظ أيضًا أن معدلات البطالة في الريف أقل من الحضر، حيث بلغت في الريف 3.3% مقابل 9.7% في الحضر.
وهذه مفارقة ذات دلالة، إذ تكشف أن المدن الكبرى تعاني منافسة أشدّ، وأن سوق العمل فيها أكثر ازدحامًا، مما يستوجب التوسع في المشروعات الصغيرة والمتوسطة داخل المدن لتوليد فرص عمل جديدة للشباب الطامح إلى حياة مستقرة فيها.
وأمر آخر له دلالته أن معظم المتعطلين من أصحاب المؤهلات المتوسطة والعليا، بل إن حملة الشهادات الجامعية يشكلون نسبة كبيرة بينهم.
هذه الحقيقة تدق ناقوس الخطر، لأننا بذلك أمام مشكلة في مواءمة التعليم مع متطلبات سوق العمل.
إننا بحاجة إلى تعليم مختلف، تعليم يزوّد الطالب بالمهارة قبل أن يمنحه شهادة، ويمنحه القدرة على الإبداع والابتكار أكثر مما يمنحه أوراقًا تحمل أختامًا.
المستقبل لن يكون لمن يملك شهادة جامعية فقط، بل لمن يمتلك القدرة على التعلم المستمر ومواكبة التغيرات السريعة في التكنولوجيا وسوق العمل.
أما عند النظر إلى توزيع المشتغلين حسب القطاعات، فإن الصورة تزداد وضوحًا.
فما زالت الزراعة وصيد الأسماك يستحوذان على نصيب الأسد من القوى العاملة، تليهما قطاعات التجارة والصناعة والتشييد والبناء.
وهذا يعكس اعتمادًا كبيرًا على القطاعات التقليدية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: متى نرى القطاعات الحديثة مثل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي وقد أخذت مكانها الطبيعي؟ إن المستقبل الحقيقي يكمن هناك، حيث تتجه دول العالم.
ولست أكتب هذه الكلمات كمن يقرأ أرقامًا جامدة، بل كمن يرى خلف كل رقم قصة إنسانية تستحق أن تُروى.
كل شاب وجد عملًا هو بطل حكاية صغيرة من حكايات النجاح.
شاب يعمل في ورشة صغيرة في قريته، فتاة أطلقت مشروعًا إلكترونيًا على شبكة الإنترنت، مهندس بدأ عمله في شركة مقاولات، خريج جامعي التحق بوظيفة في متجر تجزئة… جميعهم يشكلون معًا لوحة كبيرة تقول إن مصر تكسب رهان العمل وتنتصر على البطالة.
إن هذه الأرقام بحاجة إلى أن تتحول إلى قصص تلهم الآخرين، فالإعلام عليه دور محوري في إبراز هذه النماذج وتقديمها للشباب، كي يدركوا أن الأمل موجود وأن الفرص لا تزال متاحة، وأن الطريق مفتوح أمام من يسعى ويطور نفسه.
ولا يمكن أن ننكر أن معركة البطالة ليست سهلة، فالتحديات كثيرة، من الضغوط الاقتصادية العالمية إلى التغيرات التكنولوجية التي تفرض مهارات جديدة.
غير أن ما يبعث على الطمأنينة أن مصر لا تكتفي بالكلام، بل تخطو خطوات عملية على أرض الواقع: مشروعات قومية، بنية تحتية، دعم للمشروعات الصغيرة… كل ذلك يترجم إلى فرص عمل حقيقية يشعر بها المواطن العادي.
في تقديري الشخصي، ما تحقق اليوم ليس نهاية المطاف، وإنما بداية لطريق أطول. لقد انخفضت البطالة قليلًا، لكن الطريق لا يزال ممتدًا أمامنا كي نصل إلى معدلات أفضل.
ولن يتحقق ذلك إلا بتغيير جذري في منظومة التعليم، وزيادة الاستثمارات، وإعطاء القطاع الخاص مكانته ودوره الطبيعي في تشغيل الشباب، مع توفير بيئة تشجع على الابتكار وريادة الأعمال، حتى يتمكن الشباب من خلق فرصهم بأنفسهم بدلًا من انتظار الوظائف التقليدية.
إن الرسالة التي تبعثها هذه الأرقام هي رسالة ثقة في المستقبل.
رسالة تقول إن مصر، رغم ما تواجهه من صعوبات وتحديات، تمضي بخطى ثابتة نحو الأمام. صحيح أن هناك شبابًا يعاني من الإحباط، لكن هناك أيضًا من يعمل ويحقق وينجح.
وأود أن أختم بالقول إن البطالة ليست قضية اقتصادية فقط، بل هي في جوهرها قضية إنسانية.
حين يجد الشاب عملًا، فإنه لا يحصل على راتب فحسب، بل يجد ذاته.
وحين تعمل الفتاة، فإنها تثبت وجودها وتبني مستقبلها.
وما نشهده اليوم هو بداية انتصار جديد لمصر على البطالة، وانتصار لإرادة الحياة التي لا تنكسر.
