« أخلاق للبيع» .. عندما تسقط الأقنعة ينكشف الزيف وتظهر الوجوه على حقيقتها العارية

- أسوأ ما في الدنيا.. بشر يبيعون أرواحهم ثمنا لمصالح شخصية
- دعاة الفضيلة على السوشيال ميديا أول من يدهسونك تحت عجلات المصالح
- الكرامة لا تباع ولا تشترى.. إنها حصن النفس الذي لا يخترقه طمع أو خيانة
- القلوب الطيبة كنوز نادرة في عالم لا يقدر النقاء
- "الشرف والصدق والوفاء".. جوهر الحياة وأساس العلاقات الإنسانية
أعترف بأنني كثيرا ما توقفت أمام مشاهد يومية تمر بنا مرور الكرام، لكنها تحمل في طياتها دلالات موجعة عن تغير هذا العالم الذي كنا نظنه يومًا أكثر دفئًا، وأكثر احتفاءً بالقلوب الطيبة، لكن ما أراه الآن، هو أن الطيبة صارت تترجم ضعفا، وأن التسامح بات يُفسّر تهاونًا، وأن النُبل أصبح عملة نادرة لا تجد لها رواجًا في زمن تصدّرت فيه المصالح جدول القيم.
إننى أدرك أننا نعيش في زمن مشوه أخلاقيا، لا لخلل في الضمير الجمعي فقط، بل لأننا كأفراد، سمحنا لهذه التشوهات بأن تتسلل إلى يومياتنا، إلى نظرتنا لبعضنا البعض، إلى تفسيراتنا للخير، والعطاء، والنية الصافية، أصبح الشخص الطيب مثيرًا للريبة، يُسأل دومًا: "ما مصلحته؟"، كأن الخير لا يُمنح لوجه الله، بل لا بد من غرض مستتر خلفه، لكن الأشد إيلامًا أن كثيرًا من الطيبين أولئك الذين يحملون قلوبًا بيضاء ويمنحون ثقتهم بسخاء تلقوا ضربات متتالية على يد من حسبوهم أهلا للثقة، فينكمشون، وينزفون بصمت، ويعيدون حساباتهم، حتى يغدو الواحد منهم حذرًا، متحفزًا، كأنما خذلته إنسانيته نفسها.
لا أنكر أنني مثل غيري مررت بتجربة كهذه، تمنيت فيها لو كنت أقل صدقًا، أقل حسن نية، لكني عدت وتمسّكت بيقين واحد: أن خلل الآخرين لا ينبغي أن يدفعنا للتخلي عن أنفسنا، صحيح أن هذا الزمن بات يعلي من قيمة "الذكي الانتهازي"، ويمجّد "صاحب العلاقات والمصالح"، لكن الكرامة لا تُقاس بحجم ما تجنيه من منافع، بل بما تحتفظ به من ضمير حي لا يسقط تحت أول اختبار، إن أخطر ما تفعله بنا "تشوهات زمن المصالح" هو أنها تحاول إعادة تشكيلنا على صورة لا تشبهنا، صورة تُجبرنا على أن نكون أكثر قسوة مما نريد، وأقل إنسانية مما نحلم، كأننا في معركة صامتة يومية، مطلوب فيها أن نغلب، لا أن نفهم، أن نأخذ لا أن نعطي، أن نساوم لا أن نُصدّق.
لكن الحقيقة أن العالم ما زال بخير، طالما هناك من يقاوم هذا التيار الجارف، طالما لا يزال هناك من يربّي أبناءه على كلمة "شكرا"، على عدم استغلال الطيب، على أن "الناس معادن"، وعلى أن الأصل في العلاقات هو النُبل لا المصلحة.
وفى ظنى أن الطيبة ليست ضعفًا، بل ثباتا، والثبات على المبادئ في زمن مهتز كهذا، هو البطولة الحقيقية، فدعونا لا نغرق في التشوّه الجماعي، لا نسمح لخيباتنا بأن تعيد تشكيل أرواحنا، ولا نغادر مقاعد إنسانيتنا مهما بدت المقاعد الأخرى أكثر راحة وربحا، ففي نهاية المطاف، لا نُعرف بما جنيناه، بل بما حافظنا عليه من قيم، وسط عالم يبيعها بسهولة.
أحيانا أتأمل كيف أصبح التعبير عن المشاعر البسيطة مثل الشكر، الاعتذار، أو حتى قول "أنا آسف" أمرا مستغربا في كثير من دوائر العلاقات الاجتماعية، لقد ربانا المجتمع على أن الطيبة تستغل، وأن من يحسن يهان، حتى بات بعضنا يخشى أن يظهر مشاعره الحقيقية كي لا يُؤخذ على حين غرة، وبدلًا من أن يكون الاحترام قاعدة التعامل، أصبح التوجس هو القاعدة، والاندفاع نحو المصالح هو المبرر الأول لكل علاقة، إنه لأمر مؤلم أن ترى شخصا نقيا يجبر على ارتداء قناع من الجفاء حتى ينجو في هذا العالم المشوه، شخصيًا، لا أنسى موقفًا صادفت فيه إنسانًا أضاء يومي بكلمة طيبة دون مقابل، كان بائعًا بسيطًا، ربما لا يملك شيئًا سوى ابتسامته لكنه في لحظة عابرة منحني ما عجز عنه كثيرون ممن تعاملت معهم بحسابات المصالح. وقتها تيقنت أن الإنسانية لا تُشترى، وأن النقاء لا يرتبط بالثروة أو الشهرة أو النفوذ، بل بما نختاره في لحظاتنا الصامتة أن نكون بشرًا بحق، لا تجّار علاقات، تلك اللحظة علّمتني أن بعض الأيادي التي تمتد لمصافحتك لا تبحث عن مكسب، بل تذكرك بأنك ما زلت في عالم فيه بقية من طهر.
والمفارقة أن كثيرًا ممن يتحدثون عن الأخلاق والمبادئ ويظهرون في صورة النُبلاء على منصات التواصل، هم أول من يدهسك تحت عجلات مصالحهم إن تعارضت معك، هذا الانفصام بين القول والفعل هو أحد أبرز ملامح زمننا، لذلك، لم أعد أنخدع بالكلمات الرنانة ولا بالشعارات الأخلاقية المعلبة، ما أبحث عنه الآن، هو الفعل، الفعل الصادق النابع من قلب يعرف المعنى الحقيقي للعطاء دون مقابل، للتسامح دون ضعف، وللحب دون انتظار عائد، هؤلاء هم الندرة، وهم من يستحقون أن نقاتل كي نظل مثلهم، ولو في أبسط التفاصيل.
ورغم كل ما سبق، ما زلت أؤمن بأن الخير لم يمت، لكنه أصبح نادرا، قليلًا ما نصادفه، لكن حين نعثر عليه في أحدهم، نشعر وكأننا التقطنا أنفاسنا بعد غرق طويل، إن ما نعيشه اليوم من تحولات أخلاقية موجعة لا يعني بالضرورة نهاية القيم، لكنه يفرض علينا مواجهة مؤلمة مع ذواتنا: من نحن؟ وماذا صرنا؟ وإلى أين نمضي بهذا الانحدار المتسارع نحو أنانية جماعية تُزين لنا القسوة، وتجمّل الخداع، وتُبرر النفاق تحت مسميات "الشطارة" و"الذكاء الاجتماعي".
إن أسوأ ما في الدنيا هو أن تجد حولك بشرًا يبيعون أرواحهم دون تردد أو حياء، مقابل تحقيق مصالح شخصية ضيقة، وكأنهم ينسون تمامًا أن الكرامة والصدق والوفاء ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي جوهر الحياة وأساس العلاقات الإنسانية، هؤلاء الأشخاص لا يتورعون عن التضحية بمبادئهم، بل ويغرقون في مستنقع الخداع والرياء، متجاهلين كيف أن أي نجاح مبني على الخيانة والمكاسب الزائفة لا يدوم، بل يتحول إلى عبء ثقيل يطاردهم في كل خطوة.
هذا النوع من البشر، الذي يراكم المكاسب على حساب قيمه وأخلاقه، يزرع الفساد في المجتمعات ويخلق بيئة من انعدام الثقة والشك، حيث يصبح كل إنسان يبحث عن مصلحته الخاصة دون اعتبار للآخرين، تاركًا وراءه خرابًا أخلاقيًا لا يقل خطورة عن أي كارثة مادية.
في النهاية، هذا هو أسوأ ما في الدنيا: أن يكون الإنسان عبداً لمصالحه، ويخسر نفسه وأهله وأصدقاءه في سبيل لحظة وهمية من الربح الزائف.
أعترف بأنني كثيرًا ما شعرت بالغربة داخل مجتمعي، لا لشيء سوى لأنني تمسكت بقدر بسيط من الصدق، أو حاولت أن أكون إنسانًا طبيعيًا لا يتحرك بمنطق المصلحة فقط، وكلما حاولت أن أُغلق قلبي قليلاً كي أحميه من هذا التآكل، عاد وانفتح رغمًا عني، لأننا في النهاية لا نُخلق بأقنعة، بل نُجبر على ارتدائها، للأسف في زمن المصالح، أصبح الوفاء غباء، والوضوح سذاجة، والتسامح ضعفًا، لكن دعني أخبرك بشيء أؤمن به جيدًا أن تظل وفيًا، صادقًا، نقيًا، حتى وسط هذا الطوفان من التشوهات، هو أعظم انتصار يمكن أن تحققه لنفسك.
لا تدع أحدًا يقنعك بأن عليك أن تكون مثلهم لتنجو، النجاة الحقيقية ليست في مسايرة التيار، بل في القدرة على السباحة عكسه دون أن تفقد نفسك، إن ما نحن في أمس الحاجة إليه اليوم، ليس تنظيرًا في الفضيلة، بل عودة حقيقية للضمير، عودة صادقة للإنسانية كما نعرفها في أعمق صورها: إنسان يمد يده لا ليأخذ، بل ليمنح يفتح قلبه لا ليستغل، بل ليحب، يتحدث لا ليكذب، بل ليبني جسورا من الثقة والسكينة، ربما لن يتغير العالم من حولنا بين ليلة وضحاها، لكن يكفي أن نحافظ على ذواتنا من التشوه، حتى لا نكون جزءًا من هذا الخراب الكبير.
