خطوة تشريعية تعيد الإنسانية إلى قلب العدالة

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- منصة العدالة لم تعد مرتفعة بل أقرب إلى قلب الطفل والضحية

- عندما يُسجَّل صوت الطفل ويُحترم خوفه: تشريعات تعيد ترتيب أولويات العدالة

- القانون يسمع لأول مرة: شهادة الطفل ليست عبئًا بل أمانة

- التحقيق بلا خوف: كيف تعيد التعديلات الجنائية تعريف العلاقة بين الحق والرحمة؟

- في حضرة الإنسانية: لماذا تُعد حماية المرضى النفسيين خطوة فارقة في مسار العدالة؟

- من جمع الأدلة إلى رعاية الروح.. تحول جديد في فلسفة العدالة المصرية

هناك لحظات لا يمرّ بها الإنسان مرورًا عابرًا، بل تترك في داخله أثرًا يشبه اللمسة التي توقظه من غفلة طويلة، وتعيد ترتيب الأشياء في وجدانه، وتجعله يتساءل بصدق: أي مجتمع نريد أن نصبح؟ وأي مستقبل نريده لأطفالنا ولأضعف من يعيشون بيننا؟ وحين توقفت أمام التشريعات الجديدة المتعلقة بحماية الأطفال والمرضى النفسيين داخل منظومة الإجراءات الجنائية، شعرت بشيء يشبه الرجفة الهادئة التي تسري في القلب حين يدرك أن هناك تحولًا يحدث، لا في القانون وحده، بل في طريقة تفكير الدولة وفي مقدار الرحمة التي بدأت تتسرب إلى نصوصها.

لطالما آمنت بأن العدالة ليست مجرد منصة مرتفعة يقف عليها القاضي، ولا محاضر تُملأ ولا إجراءات تُدوّن، بل علاقة إنسانية عميقة بين الدولة ومن تحاول حمايتهم. العدالة في جوهرها فعل رعاية قبل أن تكون فعل محاسبة.

هي اليد التي تُمدّ لمن سقط قبل أن تلوّح بالسيف لمن أخطأ.

لذلك وجدت نفسي أقرأ هذه التعديلات بروح مختلفة، كأنني أقرأ بداية قصة جديدة في العلاقة بين القانون والإنسان.

قصة تُقال فيها الحقيقة دون خوف، وتُسمع فيها الشهادة دون أن ترتجف يدُ من ينطقها، ويشعر فيها الطفل بأن الدولة تقف بجانبه لا أمامه.

الفكرة التي يتضمنها هذا التغيير ليست تقنية ولا إجرائية بحتة، بل إنسانية بمعناها الأعمق.

فكرة أن الطفل الذي يدخل غرفة التحقيق لا ينبغي أن يشعر بأنه يُلقى في قلب معركة لا يفهم معانيها.

الطفل الذي تعرض لجرح نفسي أو جسدي لا يمكن أن نطالبه بأن يقف وحده في مواجهة أسئلة قد تزيد ألمه، أو تفتح في داخله جروحًا لم تلتئم بعد.

لذلك، حين قرأت أن التعديلات تشترط تسجيل أقوال الطفل صوتيًا وبصريا، وأن يكون معه شخص يثق به، أو أخصائي اجتماعي يهيئ له الأمان، شعرت بأن هذا التشريع لا يتعامل مع الطفل كشاهد أو طرف في نزاع، بل كروح يجب أن تُحاط بالطمأنينة قبل أن تُحيطها الأسئلة.

إن تسجيل الشهادة ليس مجرد وسيلة لحماية التحقيق، بل هو وسيلة لحماية ذاكرة الطفل من التشتت، وحماية روحه من أن تُجبر على إعادة سرد الألم مرات ومرات.

هو طريقة تقول له: "حكايتك سمعتها مرة واحدة، ولن نجعلها تنزف داخلك كلما أراد أحد أن يعرف الحقيقة".

وهذا، في رأيي، هو جوهر العدالة الرحيمة التي نحتاج إليها.

أمّا الجزء المتعلق بالمرضى النفسيين، فقد لامس في داخلي مشاعر لا أستطيع وصفها بسهولة.

كم من ضحية يتم اتهامها ضمنيًا لأنها صامتة؟ كم من مجني عليه فقد القدرة على التعبير فتم تفسير الأمر باعتباره ترددًا أو عدم تعاون؟ وحين يسمح القانون بإيداع الضحية - المصاب باضطراب نفسي أو عقلي - في منشأة علاجية أثناء التحقيق، فإنه لا يعترف فقط بحالته، بل يعترف بكرامته وباحتياجه لمن يفهمه قبل أن يستجوبه.

هذا التحول ليس محاولة لتجميل الإجراءات، بل هو اعتراف بأن المرض النفسي ليس عائقًا أمام العدالة، وأن الاضطراب العقلي ليس وصمة، بل حالة إنسانية يجب استيعابها.

وقفت طويلًا أمام فكرة أن القانون، لأول مرة بهذه الصراحة، يضع السلام النفسي للضحية كجزء أصيل من عملية التحقيق، فالتحقيق الذي يجري في بيئة قاسية، أو في غرفة باردة، أو أمام محقق لا يستوعب الحالة النفسية لمن أمامه، يمكن أن يُنتج شهادة مشوهة، أو حقيقة ناقصة.

لكن التحول الجديد يجعل التحقيق رحلة نحو الحقيقة لا رحلة نحو التعذيب النفسي. يجعل الشهادة فعل أمان لا فعل خوف.

لقد كانت منظومة العدالة، عبر سنوات طويلة، تركز على كيفية جمع الأدلة، ومواجهة الجناة، وإثبات الجرائم.

وهذا أمر مهم بالطبع، لكنه لا يكفي مهما بدا مكتملًا.

فهناك جانب آخر ظل منسيًا أو مهمشًا، وهو كيفية حماية المجني عليه.

كيفية الحفاظ على معنوياته، وصحته النفسية، وقدرته على السرد الهادئ، وثقته في الدولة.

هذه التعديلات تأتي لتقول إن العدالة لن تتحقق إلا إذا كان من يتقدم للشهادة يشعر بأنه في أيدٍ أمينة، وأن الدولة ليست مجرد طرف يطلب المعلومات، بل طرف يحميه ويحفظ سلامته.

وكلما فكرت في الأمر، أدركت أن هذه الخطوة ليست مجرد إصلاح تشريعي، بل هي إعادة تعريف لطريقة نظرنا إلى الإنسان.

نحن لا نحمي الأطفال فقط؛ لأنهم أطفال، بل؛ لأنهم مستقبل مجتمع كامل.

ولا نحمي المرضى النفسيين فقط؛ لأن ظروفهم صعبة، بل؛ لأننا حين نحترم ضعفهم نثبت أننا مجتمع قادر على الرقي، مجتمع يرى الإنسان قبل الحالة، ويرى الروح قبل السلوك.

إنني أشعر بأن مصر، من خلال هذه التعديلات، تقترب خطوة من النضج القانوني الذي كنا نسعى إليه.

نضج يعترف بأن العدالة ليست قوة تُمارس، بل مسؤولية تُحمل.

وأن حماية الروح هي جزء من حماية الحقوق.

وأن الدولة التي تستمع لصوت طفل مرتعش أو مريض يتلعثم هي دولة تبدأ من حيث يجب أن يبدأ كل شيء: من الإنسان.

وحين يكبر الأطفال الذين مرت بهم هذه التجارب، سيذكرون - دون شك - أن القانون وقف بجانبهم، وأن الدولة لم تتركهم وحيدين.

سيكبرون وهم أكثر ثقة في مؤسساتهم، وأكثر إيمانًا بأن العدالة ليست مجرد مصطلح، بل تجربة عاشوها.

وحين يشعر المريض النفسي بأن صوته له مكان، وأن شهادته لها قيمة، وأن حالته يُنظر إليها بعين الرحمة لا بعين الريبة، سيعرف أن المجتمع استطاع أن يصعد خطوة أخرى نحو الإنسانية.

إنني أرى هذه التعديلات بداية، وليست نهاية.

أرى فيها بابًا يُفتح نحو تطوير أكبر، وتفاصيل أكثر، وإجراءات أعمق، فالعلاقة بين القانون والإنسان علاقة تحتاج دائمًا إلى إعادة ضبط، وإلى مراجعة مستمرة، وإلى شجاعة في التغيير.

وما حدث اليوم هو خطوة في الطريق الصحيح. خطوة تقول لنا إن الرحمة ليست ترفًا، وإن الإنسانية ليست شعارًا، وإن العدالة لا تتحقق في النصوص فقط، بل في طريقة تطبيقها.

ولعل أجمل ما في هذه اللحظة أن الدولة تقول بوضوح: "نريد نظام عدالة لا يخاف منه الضعيف، بل يلجأ إليه".

وهذه، في نظري، هي أعظم صورة يمكن أن يصل إليها أي مجتمع يريد أن يحيا بكرامة، وأن يبني مستقبله على أساس من الوعي والرقي.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 440 الصادر بتاريخ  27 نوفمبر 2025

 

تم نسخ الرابط