أنا ابن البطل ..

المهندس عصام حـــــسنين يتحــــدث عـــــــــــــــــــن بطولات والده

الشورى

- عندما أثار اسم اللواء عادل حسنين الرعب في نفوس الإسرائيليين.

- من حائط الصواريخ إلى انتصار أكتوبر.. ومن معركة إلى معركة "رحلة رجل لا تموت ذكراه"

- أبي البطل، أبي الإنسان.. قصة رجل زرع الوطنية

- محمد عادل حسنين.. الرجل الذي أسقط الفانتوم وزرع البطولة في بيته   

الطفولة الأولى وانعكاس الأب في أيام الصغر

كبرتُ وأنا أراقب والدي بعيون طفل يعتاد أن يرى رجلاً شامخًا، مصطفى في بزة عسكرية، خطه ثابت لا يُملّ، وكلمته محسوبة، يتلقى الطلبات بوقار، ويخرج ليلًا في مهمّة، لكنّ حين يعود يتغيّر شكله بالكامل: يضحك، يقصّ حكاياته، يقف معي فأجلس بجواره وأشعر بالأمان.

المهندس عصام حـــــسنين

منذ طفولتي الأولى علّمنا أن الوطنية ليست شعارًا يُردّد، بل مواقف تُقدَّم. كنت أراه يسكب فينا حب الوطن قبل أن نعرف كيف نكتب اسمه، يغرس في قلوبنا أن الدم الذي يجري في عروقه هو من دم مصر، وأن الأرض التي نعيش عليها يجب أن نحميها ونبنيها ولا نتهاون في ترابها.

كان والدي لا يكلّ عن التوجيه والنصح، لكن بطرق هادئة، بلمسة أبويّة، حتى لو كنت مخطئًا أحيانًا، كان يصغي لي أولًا، ثم يدعني أسمع رأيه، ولا يفرض كلمته بالقوة، بل بالحكمة التي اكتسبها على مدى سنوات من العمل العسكري والمواقف الصعبة.

المقاتل والقائد: من دفاع الاستنزاف إلى انتصار أكتوبر

حين نتحدث عن والدي كقائد عسكري، فإن التاريخ يحفظ له موقفه في حرب الاستنزاف، حيث كانت الأرض تُستنزف يومًا بعد يوم، والجنود يقدمون التضحيات بلا توقف، والليل كان حلبة معارك على امتداد الجبهة.

في تلك الأوقات لم يكن البعد الشخصي أو العائلي حاضرًا غالبًا، بل كان الحضور العسكري يُهيمن، والقلوب تنبض بحب الوطن والتضحية.

في عام 1970 قاد معركة حائط الصواريخ، وهي إحدى المعارك التي تسبق الانتصار الأكبر في أكتوبر، وأثبت فيها شجاعة فائقة، وعزيمة لا تلين، حتى إن نجاحه في هذه المعركة كان من عوامل الضغط على العدو.

وقد ذُكر عنه أنه في هذه المعركة أُلقيت عليه أعباء كبيرة، ولكنه لم يتراجع، ولم يلتف للخوف، بل قاد جنوده بثقة، فكانت أرض المعركة تشهد بذكائه وصموده.

ثم جاء أكتوبر 1973، يوم العزة والكرامة، ليبرهن المصريون على أنهم رجال في أصعب اللحظات، وأن التضحيات التي بُذلّت لم تذهب سدى.

كان والدي جزءًا من هذه الصفوف التي التقت في ميدان العز، بقلوب مؤمنة وإرادة لا تلين، يداً بيد نحو تحرير الأرض.

الراحل اللواء محمد عادل حسنين قائد معركة حائط الصواريخ 

تلك المواقف العظيمة لم تقتصر على البطولات التي تُكتب في دفاتر التاريخ، بل في تصرّفاته الصغيرة بين الجنود، في اهتمامه بهم، في حرصه على سلامتهم، في كلماته التي تشحنهم بالأمل، وتُلهِب فيهم عزيمة الصمود.

الجانب الإنساني: الأب المنسي خلف البزة

ليست البطولات وحدها ما يُصنع رجلاً، بل أيضًا حكمة الإنسان في بيته، وتعاملُه مع أولاده وزوجته، وكيفية مواساته في الأحزان والفرح.

والدي كان في البيت نسخة إنسانية من البطل العسكري.

أتذكر الليالي التي يعود فيها بعد مناورة أو مهمة، مرهقًا، لكنه يطمئن: "كيف حالكم؟ هل مرّ يومكم بخير؟" وكأنّ العنفوان العسكري يُواريه، فيظهر الجانب الأبوي اللطيف، المشفق، المتفهم.

كنت أراه إذا رآني مهمومًا أو حزینًا، يجلس معي، يسألني بهدوء: "ما الأمر يا ولدي؟" ثم يستمع، ويُهدّي، ويُرشد.

لم أقل له في كثير من المرات كم تحتّمني تلك اللحظات، لكنّي في قلبي كنت أردد: الحمد لله أن أبي الرمز هذا ليس بارد القلب، بل هو في أعماقي أحنّ الأب.

كما أن صدقه مع الناس، عدله في المعاملة، وأخلاقه العالية، جعلته محط احترام الجميع، ليس فقط في الأوساط العسكرية بل في الأحياء، في الجيران، في المواقف اليومية.

كان يرى أن القائد لا يُقاس بالبزة وحدها، بل بسلوكياته في المواقف الصغيرة، عندما لا يراه أحد، حين يُعطي بلا إعلان، حين يُساعد بلا انتظار شكر، حين تكون كلماته نورًا لمن حوله.

أثره في حياتي: بين المعلّم والقدوة

من الصعب أن أصف التأثير الذي تركه فيّ والدي، فهو لم يكن تربية، بل نهج حياة تلقّيته بوعي أو بغير وعي.

علمني أن الصدق لا يُساوم عليه، وأن الأمانة ليست مجرد كلمة، بل سلوك يُمارَس في العمل، في العلاقة، في التعامل مع الآخرين.

علمني أن الشجاعة ليست فقط في المواجهة العسكرية، بل في الوقوف ضد الطغيان، في قول الحق في زمان يفضل فيه الكثيرون الصمت، في تحمّل المشاق لأجل مبدأ.

علمني أن الوطنية ليست رفُوع علم فقط، بل خدمة الناس، والتنمية، والإخلاص في العمل، والانتماء الحقيقي الذي لا يُباع أو يُشترى.

علمني أن قوة الدولة تبدأ من قوة الإنسان، وأن الابتسامة قد تفتح قلوبًا أكثر مما تفعله الكلمات، وأن الرحمة واللطف مع الناس هما من أعظم بطولات الحياة اليومية.

وكما علّمني، فهو إلى الآن معي في كل قرار أتخذه، في كل لحظة أُفكّر فيها، أسمع صوته في رأسي: "خذ هذا الطريق إن كنت مقتنعًا به، ولا تساوم على مبادئك.".

الفقدان: حين يغيب البطل

في لحظة الرحيل، أحسست أن الدنيا انكسرت. الفضاء الذي كان يملؤه صوته وضحكته ونصيحته، صار صامتًا.

لكن الصمت في داخلي لم يكن فراغًا، بل خزينًا من الذكريات، من القصص، من العبر التي علّمني إياها بلا تكرار يخرسها الزمن.

لم يكن الفقدان مجرد غياب جسد، بل عزلة عن مصدر الأمان، عن اليد التي تضعها في يدك إذا ضللت الطريق، عن الكتف الوحيد الذي يحملك إذا ارتجفت قدماك.

لكني تعلمت أن الغياب ليس نهاية، بل استمرارية في القلب، في العطاء الذي ورثناه، في السير على الدرب الذي رسمه لنا.

 أحيانًا حين أسمع نصيحة كانت منه، أو أتذكر موقفًا يختزل درسًا، أبتسم وأشكر الله أنني كنت ابن رجل بهذا العيار، حتى لو رحل، فإن إرثه فيّ باقٍ، وصوته يدنو مني في لحظات الضعف ليعيدني إلى الطريق.

دور الأب في بناء الشخصية الوطنية

إن قصة والدي ليست حكاية فردية فقط، بل تجسيدا لفكرة أن الأبطال الحقيقيين هم الذين يُزرعون القيم في أولادهم، ويورّثونهم حب الوطن والتضحية.

من هذا المنطلق، فإن تأمل سيرته يُلهمنا بأن نحيي في أجيالنا روح الانتماء، وأن نزرع في قلوب الشباب أن البطولة ليست في الحرب وحدها، بل في البناء، في الإصلاح، في العمل الخالص من أجل وطنهم.

وهذا هو المهم في الذكرى: ألا تبقى ذكراه كبطاقة تُذكر في يوم واحد من السنة، بل أن نستنهض من سيرته كل يوم نورًا للعمل، وكل لحظة عزمًا للسير نحو الأفضل.

استمرارية النضال: بين الماضي والحاضر

حين ننظر إلى مصر اليوم، لا نستطيع أن نفصل ما تحقق من نهضة وبناء وتقدم عن الروح التي أُنشئت في أيام الكفاح. وأرى في قيادتنا الحالية رسالة استكمال لمسيرة الأبطال.

إن ما يفعله فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي من مشروعات ضخمة، من تطوير البنية التحتية، من إحياء القيم الوطنية، هو امتداد لإيمان الأجيال التي نذرت نفسها لرفع راية الوطن.. وفي هذا الإطار، فإن حديثي عن والدي ليس فقط استذكارًا لماضٍ، بل دعوة إلى الحاضر والمستقبل: لنبنِ وطنًا يُشرفنا، لا نكتفي بالبطولات العسكرية، بل نحرز بطولات حضارية في الاقتصاد، في التعليم، في الصحة، في العدل، في الإنسان.

رسالة الأبناء إلى الآباء الأبطال

لكل أبّ لم يزل حياً، لكل أم ترعاه، ولكل جيل يُريد أن يفهم معنى العطاء، أقول: لا تدعوا ذكرى الآباء تقتصر على النعي والحنين، بل اجعلوها وقودًا تُحيون به الذات، ترددون فيه القيم، تنقلونه إلى أجيالكم.

وأنا، كمُتمثّل بأبي في حديثي، أُخاطب أبناء الأبطال: كونوا سفراء تلك القيم في بوصلتكم اليومية، لا تكتفوا بفخر اسمه، بل افعلوا ما يليق باسمه.

التأمل في الذكرى: كيف نجعلها حياة؟

في كل عام تحل ذكرى أكتوبر، فتُرفع الأعلام، وتُلقى الكلمات، وتُقام الاحتفالات. لكن السؤال: كيف نجعل هذه الذكرى حياة واقعية في يوميات المصري؟

أرى أن ذلك يكون عبر:

1. التربية الوطنية الواقعية في المدارس والجامعات، لا مجرد تلقين، بل غرس روح المبادرة والانتماء.

2. تكريم الأبطال الحقيقيين المجهولين في كل قطاع، ومنحهم مكانتهم في الذاكرة الوطنية.

3. التشجيع على العمل والعطاء.. أن تتحول الذكرى إلى حافز لكل مواطن ليبني وطنه، لا أن يكتفي بالاستذكار.

4. الإعلام والثقافة.. أن ينتخب الأعمال التي تُظهر القيم الحقيقية، لا الفرجة الفارغة، أن تُسرد قصص الأبطال بمصداقية، أن تكون الذكرى ليست صفحة تُغلق، بل جسرًا يمتد نحو المستقبل.

بهذه المشروعات، تجعل ذكرى النصر لا مجرد يوم احتفالي، بل حافز دائمًا.

الختام: الولد الذي يمشي على درب أبيه

أختم هذا المقال وأنا أوقن بأن المسيرة لا تنتهي برحيل الظِل، بل تستمر بأبنائه الذين يحملون شعلة الإيمان والقيم.

أبي الغالي، لقد زرعت فيّ حب الله ثم حب الوطن، وغرست في فؤادي أن الإنسان إنما يُقاس بقيمه، ليس بثرائه أو مكانته، وأن العطاء بلا حدود هو من يجعل لحياة المرء معنى.

سأمشي على دربك، وسأسعى أن أكون ابنًا يليق بك، في العمل، في الصدق، في الوفاء، في بناء الخير في هذا الوطن العزيز.

وأدعو لكل من يقرأ هذا المقال أن يستلهم من سيرتك، وأن يرفع يده بالدعاء أن يحفظ مصر وشعبها وقيادتها، وأن يرزقنا في كل قلب بطلاً من أبناء هذا الوطن يحمل راية العزة إلى الأمام.

الصفحة السادسة والسابعة من العدد رقم 432 الصادر بتاريخ  9 أكتوبر 2025
 
تم نسخ الرابط