طباع البشر لا يغيرها الزمن

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- قناع النضج لا يخفي تشوه الطبع ولا يداوي قسوة النفوس 

- النجاة بالنفس تحتاج إلى مسافة صحية من الاختلاط بالناس

- الإنسان النقي يواجه صراعا لا يرحم مع قسوة الواقع وجحود البشر

- النفس البشرية أكبر ابتلاء في الحياة.. والرضا هو مفتاح السلام الداخلي

أعترف بأنني قضيت وقتا طويلا أراهن على حسن النوايا، كنت أؤمن بأن البشر، مهما قست طباعهم، قادرون على التغير، على الندم، على الاعتذار، على التراجع عن الأذى، لكن بمرور الوقت، وجدت أن ذلك الإيمان كان عبئا، وأنني في كل مرة منحت فيها قلبي أو ثقتي، كانت الخسارة من نصيبي، أدركت متأخرًا أن بعض الناس لا يتغيرون، بل يتقنون التمثيل فقط، حتى تحين لحظة السقوط فيكشفهم الظرف أو يُعريهم الوقت، لم أعد ألومهم، بل ألوم نفسي لأنني توقعت شيئًا غير الموجود، لأنني تمسكت بصورة كنت أريدها، لا الصورة الحقيقية كما هي.

في هذا المقال، أكتب عن طباع الناس كما عايشتها، لا كما قرأتها في كتب المثالية، أكتب بلسان الخيبة، وبقلب تعلم بالطريقة الأصعب أن أسوأ ما في الحياة، قد يكون الإنسان نفسه.

دائما ما نقابل الناس في البداية وهم يرتدون أجمل أقنعتهم، نراهم لطفاء، متفاهمين، قريبين من القلب. نصدق ما يظهر، ونبني عليه مشاعرنا وتوقعاتنا.

لكن بمرور الوقت، تبدأ الأقنعة في السقوط، وتتكشف طباع لم نكن نتوقعها.

وهنا، تبدأ الحقيقة المؤلمة: الناس لا يشبهون البدايات، كثير من الناس لديهم شغف خفي بالسيطرة، بالرغم من أنهم لا يعلنون ذلك.. التسلط لا يعني بالضرورة رفع الصوت أو فرض الرأي بالقوة، بل قد يكون في أبسط التصرفات: كلمة جارحة، تجاهل متعمد، تدخل في شؤون لا تخصهم.

من طباع الناس أن بعضهم لا يستطيع أن يعيش دون أن يشعر بأنه المتحكم، حتى في تفاصيل الآخرين، ولعلنا نردد كثيرًا أن "الناس تتغير"، لكن الحقيقة أن ما يتغير غالبًا هو سلوكهم، لا طباعهم. الإنسان لا يبدل جلده بسهولة.

من كان أنانيًا سيظل كذلك، فقط يتعلم كيف يخفي أنانيته حين يحتاج شيئًا منك.

ومن كان صادقًا، لا يستطيع أن يتقمص دور الخداع، حتى لو حاول.

من المؤلم أن هناك من يجرح دون أن يشعر، ومن يؤذي دون أن يهتز له ضمير.

بعض الناس يعتقد أن الصراحة تبيح القسوة، أو أن المزاح يعطيه الحق في الإهانة.

وهؤلاء من أخطر الطباع، لأنهم يحملون الأذى خلف ستار البراءة.

لعل أكثر الأخطاء شيوعا أننا نظن أن الناس يشعرون مثلنا، ويمنحون بقدر ما نعطي، ويحبون بصدق كما نفعل.

لكن الحقيقة أن لكل إنسان قلبه الخاص، وتربيته، وتجربته التي صاغت طبعه.

الانتظار من الناس أن يكونوا "نحن" هو أقصر طريق للخذلان، لقد تعلمت مع الوقت أن بعض الناس لا يمكن أن نغيرهم، ولا أن نتعامل معهم كثيرًا.

الحل الوحيد هو خلق مسافة صحية تحمينا من ضررهم.

فطباعهم ليست مجرد اختلاف في الشخصية، بل أدوات أذى مستمر.

الصمت أحيانا نجاة، والابتعاد ذكاء.

ربما هناك تساؤل: هل الناس طيبون؟ نعم.

وهل الناس سيئون؟ أيضًا نعم.

البشر ليسوا أبيض أو أسود، بل مزيجا معقدا من الخير والشر، العطاء والأنانية.

وفهم هذه الحقيقة يخفف علينا صدمة اكتشاف طباعهم الحقيقية، نحن في عالم تزداد فيه الأقنعة، ويختبئ فيه الأذى خلف كلمات لطيفة، أهم ما يمكن أن تفعله هو أن تحمي قلبك وتحسن الظن دون أن تسلم مفاتيح نفسك.

تعامل بلطف، لكن بوعي، سامح، لكن لا تنسى.. لا تبالغ في التوقعات، حتى لا تكتشف متأخرا أن بعض الطباع لم تكن يوما تستحقك.

إنني أكرر وأعترف بأننا في رحلة الحياة، كثيرا ما نصدم من تصرفات البشر، فنكتشف أن أسوأ ما في الحياة قد يكون الإنسان نفسه.

فبينما نأمل في الخير والتفاهم، نجد أنفسنا أمام طباع متسلطة، قاسية، لا تتغير بسهولة، الناس لا يتغيرون كثيرا، فهم يحملون في داخلهم طباعا متجذرة، تتخفى أحيانًا خلف أقنعة المجاملة واللطف، لكنها سرعان ما تظهر في لحظات الاختبار، وقد أشار بعض المفكرين إلى أن الطبيعة البشرية تميل إلى التوحش في سبيل البقاء، مما يجعل التغيير الحقيقي أمرا نادرا وصعبا، في كثير من الأحيان، نفاجأ بتصرفات من أشخاص ظننا أننا نعرفهم جيدا، فنقول بدهشة: "لقد تغير!"، بينما الحقيقة الأعمق أن التغير لم يحدث فجأة، بل ما حدث هو انكشاف تدريجي لطباع كانت مخفية أو مموهة خلف الأقنعة الاجتماعية والمجاملات والمواقف العابرة.

ان التسلط، الأنانية، الغدر، والخذلان ليست صفات نادرة، بل هي جزء من الطبيعة البشرية التي تظهر عندما تتاح الفرصة، وقد يكون الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على إلحاق الأذى بغيره بوعي وإدراك، مما يجعله في بعض الأحيان أسوأ ما في الحياة، قد يكون من الحكمة أن نتعامل مع البشر بحذر، وأن نُدرك أن التغيير الحقيقي نادر، وأن الطبيعة البشرية تحمل في طياتها جوانب مظلمة لا تظهر إلا في الظروف المناسبة، الإنسان، رغم قدرته على الخير، يحمل في داخله بذور الشر، والتغيير الحقيقي يتطلب جهدا ووعيا لا يمتلكه الجميع.

أحد أقسى الدروس التي تتعلمها مع الوقت هو أنك لن تجد دائمًا نفسك في الآخرين، هناك من لا يعرف معنى الوفاء، من لا يؤمن بفكرة رد الجميل، ومن لا يتردد لحظة في أن يدوس على ما بينكما من عشرة ومودة حين تتعارض مع مصلحته.

وللأسف، لا يظهر ذلك في البداية.

بل تراه مع الوقت، في المواقف الصغيرة، في لحظة تحتاجه فيها ولا تجده، في كلمة كان يجب أن تُقال ولم تُقل، أو في تصرف يعكس كم أن ما كنت تعتقده "قربًا" لم يكن إلا تقاطع طرق عابرا.

وعندها تفهم أن طباع الناس لا تُقاس بما يقولونه، بل بما يفعلونه حين تُختبر مشاعرهم ومواقفهم، نحن لا نتألم من الظروف وحدها، بل من الناس، لا نخذل من الواقع، بل ممن وعدونا بالمساندة ثم اختفوا، لا نحزن من المرض بقدر حزننا من الوحدة وسط من نحبهم، كثيرًا ما يكون الألم الحقيقي في الحياة قادما من إنسان قريب لم يفهمك، صديق استغل ضعفك، أو حبيب تلاعب بثقتك.

وهذا ما يجعلني أؤمن بأن أصعب ابتلاء ليس دائمًا ماديًا أو صحيًا، بل إنسانيا.

لهذا لا ألوم من يُغلق قلبه، أو من يقلل من اختلاطه بالناس.

لأن بعض الطباع تنهك الروح، وتستهلك الطيبة، وتطفئ بداخلنا أشياء لا تعوض.

فكن واعيا وأنت تتعامل مع البشر؛ لأن ليس كل وجه بشوش يحمل نية صافية، وليس كل من اقترب، جاء ليبقى.

ولعلني أعود لنفسي بعد كل خيبة، وكل دهشة مؤلمة تركها لي البشر في الطريق، أعود لأنظر في المرآة وأسأل: هل كنت طيبا أكثر مما يجب؟ هل وثقت فيمن لا يستحق؟ هل صدقت أن النوايا الطيبة تكفي لتُبقي الآخرين طيبين؟ الحقيقة أنني لا أملك إجابة قاطعة، لكنني تعلمت أن البشر لا يتغيرون كثيرا، بل هم كما هم، يتقنون إخفاء طباعهم لحين، لحظة ما، يسقط القناع، ويظهر الوجه الحقيقي، وأحيانا يكون هذا الوجه أبعد ما يكون عن كل ما عرفت.

أنا لا أكره الناس، لكنني أرهقت من محاولات فهمهم، وتبرير أذاهم، وانتظار أن يتغيروا، أرهقت أيضا من تلك المساحة الرمادية بين الثقة والخذلان، بين المحبة والاستخدام، بين الكلمة الطيبة والنوايا الخبيثة.

ولهذا، اخترت السلام مع النفس، والمسافة الآمنة، والحذر المحسوب.

فليس كل من يبتسم يحمل الخير، وليس كل من يقترب يستحق أن يبقى، ربما هذا هو الدرس الأكبر في الحياة أن تفهم الناس على حقيقتهم دون أن تصبح مثلهم، أن ترى قبحهم دون أن تفقد جمالك، أن تعرف خبث بعضهم دون أن تنجرّ إلى لعبة القسوة، أن تعيش ببصيرتك لا بأمنياتك، فالناس لا يتغيرون كثيرا لكنك تستطيع أن تغير طريقة تعاملك معهم، وهذا وحده كفيل بأن ينقذك من تكرار الألم.

الصفحة السابعة من العدد رقم 429 الصادر بتاريخ 18 سبتمبر 2025
تم نسخ الرابط