« ترندات تافهة.. ووعي غائب» .. من "الكشري" إلى "الشيبسي".. هزل ما بعده هزل!

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- السوشيال ميديا تتحول إلى مستودع للنفايات البصرية.. والشهرة تُصنع من العبث

- "فتاة الشيبسي" فصل جديد في مسلسل "السخافة" التي بلغت ذروة الانحدار 

- الجمهور يصنع الترند ويأكله من استعطاف إلى نجومية ثم السقوط في بئر السخرية

- التفاعل الإنساني الراقي لا يجب أن يبتذل بحثا عن شهرة زائفة

لا شيء يثير اشمئزازي في هذا الزمن كما تفعل تلك "الترندات" العبثية التي تتناسل كالفطريات على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح المشهد برمته أشبه بسيرك كبير، أبطاله الصدفة، وأدواته التفاهة، وجمهوره بالملايين، لقد انقلبت المعايير، وأصبح النجاح يقاس بعدد المشاهدات، لا بالمحتوى، والاهتمام يمنح لمن يصرخ أكثر، لا لمن يقدم قيمة.

منذ أيام، ضجت المنصات بترند فتاة "الشيبسي"، لا مضمون، لا معنى، لا موقف، فقط فيديو عابر، يحمل القليل من الغرابة، والكثير من الضحالة، فيتحول فجأة إلى ترند يلهث خلفه الجميع، مطربون، أصحاب محال، كومبارس الترند، كلهم تسابقوا لتقليد المشهد، وكأننا أمام فتح إعلامي جديد.

أي انحدار هذا؟ وأي مجتمع ذلك الذي يقفز بكل حماسة خلف مشاهد لا تُضحك، بل تفضح خواءه؟ ولنا في ترندات أخرى عبرة وعظة، فما ترند "محمد كشري المصفوع" ببعيد، ذاك الذي تم تدويره بكل أشكال السخرية، ثم رفع إلى مرتبة "الشهرة"، قبل أن يُلقى به في سلة النسيان كقطعة محتوى تالفة، ماذا قدم؟ ما الرسالة؟ لا شيء، مجرد صفعة تحولت إلى موجة ضحك، وضحكنا، وضحكنا، حتى نسينا أننا نضحك على أنفسنا.

والحق يقال لم يعد هناك سقف للسقوط، كلما اعتقدنا أن السوشيال ميديا بلغت القاع، تظهر موجة جديدة تفضح ما هو أعمق من السطحية، نحن أمام جيل يُعاد برمجته ليضحك على كل شيء، ويسخر من كل شيء، وينسى أن قيمة الإنسان لا تقاس بكم "الشير" و"اللايك"، بل بما يضيفه من فكر، من إحساس، من أثر.

هذه الترندات لا تضحكني، بل تخيفني، لأنها مرآة لما آل إليه وعينا الجمعي، لأنها تظهر هشاشة الذوق العام، واستعداد الناس لالتقاط أي هراء وتقديمه كوجبة رئيسية.

الخطر لا يكمن في فتاة قالت كلمة غريبة، أو رجل تلقى صفعة، بل في الطريقة التي نتعامل بها كمجتمع مع هذا المحتوى، في حجم التفاعل، في الاهتمام، في المكافأة الممنوحة للعبث، كفانا انبهارا بالـ "لا شيء"، كفانا ترفيعًا للفراغ، هذه ليست حرية، ولا خفة دم، ولا حتى ترفيها، هذا عبث يغلف بضحكة بلهاء، هذا زمن إذا لم نستيقظ فيه على كارثة الترند، فقد نصحو يوما بلا ذوق، بلا وعي، بلا مجتمع يحسن أن يفرق بين ما يضحك، وما يُحزن.

لقد سرقت الترندات صوت العقل، وابتلعت كل ما هو جاد ومحترم، وأخشى أننا إن لم نكسر هذه الحلقة، سنبقى نُعيد تدوير التفاهة جيلاً بعد جيل، ونكتب تاريخنا تحت هاشتاج ساخر، لا أحد يتذكّر منه سوى أنه كان "ترند"، ما نراه ليس مجرد ترند تافه، بل مرآة مشوهة لزمن هش، فيه الشهرة لا تحتاج موهبة، والاهتمام لا يتطلب قيمة، والانبهار يمكن أن يُصنع من هراء، تحول الناس إلى جمهور بلا معايير، يصفقون لأي مشهد، ويصعدون به إلى القمة، ثم يسخرون منه بعد لحظات وكأنهم لم يكونوا جزءًا من صناعته، من ضحية إلى نجم إلى مادة للسخرية، هذا هو المصير الدوري لأبطال الترندات العابرة، نحن لم نعد نعيش في عصر يقدر فيه الموهوب، أو يحتفى فيه بالذكي، أو ينتظر فيه المفكر، نحن نعيش في زمن الـ"لا معقول"، حيث تكفي "زلة لسان" أو "تصرف غريب" أمام الكاميرا، حتى يتحول صاحبه إلى نجم يتصدر الترند، وتتسابق وسائل الإعلام لتغطيته، ويتكالب المعلنون لاستغلاله. الغريب أن بعض المحال التجارية والمطربين باتوا يستخدمون هذه الترندات الهزلية كوسيلة دعاية، وكأن المجتمع فقد بوصلته بالكامل، ولم يعد يفرّق بين "الصدى" و"الضوضاء"، بين ما يُبنى وما يُستهلك في لحظة.

ترند "فتاة الشيبسي" ليس سوى عنوان فرعي في مسلسل طويل من السذاجة الجمعية، يبدأ بلقطة عابرة وينتهي بمهرجان غنائي أو إعلان دعائي، وبين البداية والنهاية يلتهم الترند عقول الملايين ويعيد تشكيل أولوياتهم، الكارثة أن كل هذا يُعد "نجاحا" في زمن الرقمية، فكلما زاد التفاعل والمشاهدات، ارتفعت قيمة العبث، أما القيم الحقيقية، فتموت بصمت، لا تملك سطوة الكاميرا، ولا يدعمها "اللايك" أو "الشير".

ما حدث مع "فتاة الشيبسي" تجاوز حدود الموقف الإنساني أو التقدير العفوي من النجم تامر حسني، وتحول تدريجيًا إلى مشهد عبثي يكشف بوضوح كيف أن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فبدلاً من أن تتوقف القصة عند لحظة دافئة تُشكر، بدأت الفتاة تستغل الزخم الجماهيري حولها وتُطلق سلسلة من الطلبات الغريبة، مقابلة الخطيب، ثم بعض نجوم الكرة، وربما غدًا تطلب تصوير مسلسل أو إعلان! هل هذا منطق؟ هل وصلنا إلى هذه الدرجة من الفراغ والـ"لا مسؤولية"؟ !

إن التفاعل الإنساني الراقي لا يجب أن يُستدر أو يحول إلى وسيلة شهرة أو استهلاك، حين يتحول الاحتفاء الفردي إلى عادة يومية ونهم لا يتوقف، تفقد القصة معناها، ويضيع الجوهر في زحام الاستعراض، من المحزن أن يصبح النجم في هذا الزمن تحت ضغط الاستجابة لكل "ترند"، لا لأنه مؤمن به، بل لأنه يخشى اتهامه بالغرور أو "عدم التواضع". والمجتمع بدوره يصفق، ثم يملّ، ثم يسخر، وكأننا ندور في دائرة مفرغة، لا تفرز إلا المزيد من التفاهة المقنّعة بالاهتمام.

ما نعيشه اليوم على السوشيال ميديا لم يعد مجرد "تطور طبيعي" في أدوات التواصل، بل صار تشوها في الذوق العام، وتشويشا على مفاهيم المعنى والقيمة، عندما يتحول الترند إلى مقياس للنجاح، وتصبح "الشهرة اللحظية" حلما يلهث وراءه، نكون قد فقدنا البوصلة تمامًا، لا أحد ضد البهجة أو اللطف أو اللحظات العفوية، لكن حين تُفرغ هذه المفاهيم من مضمونها، وتُستخدم كجسر لعبور أشخاص غير مؤهلين إلى مقدمة المشهد، فهذه كارثة على الوعي الجمعي.

الخطير في الأمر أن المجتمع يشارك دون وعي في تضخيم هذه الظواهر، ويمنحها شرعية بالمتابعة والمشاركة والتعليق، ثم يعود ليسخر منها وكأن لا علاقة له بما حدث. أصبحنا أمام جمهور يضحك في البداية، ثم يُدير ظهره في النهاية، يصفق لشيء لا يؤمن به، ثم يتساءل لاحقًا: "لماذا كل هذا العبث؟"، لابد من وقفة، من مراجعة، من لحظة وعي حقيقية نعيد فيها الاعتبار للموهبة الحقيقية، وللقيمة الإنسانية، وللأصوات التي تستحق أن تُسمع. فالعالم لا يحتاج إلى نجم جديد كل صباح من قلب العبث، بل يحتاج إلى وعي يعيد ترتيب الأولويات، ويحفظ الذوق العام من هذا الانهيار المتسارع تحت شعار الترند.

الصفحة السابعة من العدد رقم 427 الصادر بتاريخ 4 سبتمبر 2025
تم نسخ الرابط