الخميس 26 يونيو 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

محطة جديدة على سكة العمر

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- أبدأ عاما جديدا بمصالحة صافية مع النفس.. وأحلم بيوم يخلو من ظلال الحقد والغل

- ميلادي هذا العام ليس ككل الأعوام.. فالحب غير كل شىء 

- قلبي أعاد اكتشاف الحياة من جديد بحب نقي خال من أي مصلحة

- في كل عيد ميلاد أتنفس طفولتي من جديد

- أيام الصبا.. ذكريات خالدة وحنين لا ينطفئ

- أتمنى أن يحمل عامي الجديد سكينة الروح ونقاء البدايات

لا أعلم على وجه الدقة لماذا يحمل يوم مولدي هذا الثقل العاطفي كل عام، لكنه يأتي دائمًا محمّلًا بتأملات صامتة، وأحاديث طويلة لا يسمعها سواي، فكلما أطفأت شمعة، شعرت بأن جزءًا مني يعاد تشكيله وكأن العمر لا يقاس فقط بالسنوات التي تمر، بل بالوعي الذي يتسلل إلينا في صمت، بالحنين الذي يكبر، وبالأسئلة التي لا نجد لها إجابة ولكن نعتاد وجودها، إننى أعتبر أن يوم مولدي ليس مجرد رقم جديد يضاف إلى عدّاد السنين، بل محطة أقف عندها، أراجع فيها نفسي، أعترف بما تغير، وأتصالح مع ما تبقى، فحين يحل يوم ميلادي، لا أشعر بأنه مجرد مناسبة عابرة أو تاريخ يكتب على كعكة احتفال، بل أراه دائمًا محطة بالغة الخصوصية، لحظة صمت تأتيني وسط ضجيج الحياة، لأتأمل وجهي في مرآة السنوات، وأسأل نفسي: ماذا أنجزت؟ وماذا تبقّى؟ 

أشعر بأن عيد ميلادي هذا العام ليس مجرد محطة زمنية عابرة، بل لحظة فارقة تحمل في طياتها ملامح تغيير عميق تسلل إلى داخلي بهدوء وجمال، ثمة نبض جديد يسري في قلبي، ينبض بحب صادق خال من أي مصلحة، حب جاءني في وقت كنت أبحث فيه عن دفء مختلف، ووجدته، هذا الحب بعفويته ونقائه، غير نظرتي إلى الحياة، جعلني أراها بألوان أكثر إشراقًا وطمأنينة، وكأن العالم أعاد ترتيب نفسه من حولي، وللحق لم يكن هذا الحب هروبا من واقع أو رغبة في اكتمال خارجي، بل كان ضوءا داخليا، أشعل شموع الأمل في نفسي، وأعطاني سببا جديدا لأبتسم، لأحلم، لأمضي قُدما نحو سنوات قادمة بروح مفعمة بالامتنان، لم يعد عيد ميلادي مجرد رقم يضاف إلى عمري، بل تحول إلى ذكرى لبداية حقيقية، لحالة وجدانية أعيشها بكل تفاصيلها، وكأن القلب أعاد اكتشاف الحياة من جديد.

وها أنا أقف اليوم على أعتاب عام جديد من عمري، لا أدّعي الحكمة ولا أنكر مرور العمر، لكنني أشعر -وبكل صدق- بأن شيئًا ما قد تغيّر بداخلي، لست نفس الشخص الذي كنت عليه منذ عام، هناك نضج ما تسلل إلي، ربما قسوة ما، وربما حنين، وربما شيء من الصفاء أيضا، الوقت يمضي كما لو كان عصفورا يفلت من يدك، لا يمكنك الإمساك به، ولا حتى اللحاق به، عام مضى بكامل ما فيه، من أفراح وانكسارات، من لقاءات ووداعات، من خيبات وأحلام تحققت أو بقيت معلقة.

وقد اعتدت في مثل هذا اليوم، أن أترك الزحام وراء ظهري، وأجلس إلى نفسي في حوار صريح لا يشوبه تزييف، أفتش في دفاتر أيامي، أراجع نفسي، وأمنح قلبي فسحة للتسامح، وعقلي فرصة للمراجعة، في عامي الجديد، لا أطلب الكثير، فقط أريد أن أكون أكثر هدوءًا، أكثر وعيًا، أكثر صدقًا مع نفسي والآخرين، أريد أن أتعلم كيف أمرّ في الحياة برقة، كيف أحتفي باللحظات الصغيرة، وكيف أحتفظ في قلبي بمكان دائم للامتنان، إنه ميلاد جديد، لا لعمر فقط، بل لروح تتمنى أن تحيا أخفّ، وتحب أعمق، وتغفر أسرع، وتسير في الحياة بثقة، وإن لم تفهم كل شيء. لقد أصبح الوقت يمضي بخفة شديدة، بل بسطوة، دون أن يُمهلنا فرصة الاستيعاب، وأمام تلك السرعة اللاهثة، يصبح التوقف قليلًا نوعًا من النجاة الروحية، أتأمل في سنواتي الماضية، في القرارات التي اتخذتها، في الطرق التي سلكتها، في العلاقات التي مضت وتلك التي بقيت، بعضها ترك أثرًا لا يُمحى، وبعضها مرّ مرور العابرين، تعلمت أن الحياة لا تُقاس بطولها فقط، بل بعمق اللحظات التي عشناها فيها، بحجم الصدق الذي وُجد في تفاصيلها، وبالرضا الذي نُقابل به محطاتها، سواء كانت سعيدة أو موجعة

وكلما حل يوم ميلادي، أشعر بجاذبية داخلية لا تقاوم تدفعني لأن أغوص في أعماق نفسي، أسترجع ذكريات قديمة تتسلل إلى روحي وكأنها عطر يملأ الأجواء بأريج الأيام الجميلة التي عشتها، أعود بكياني إلى تلك السنوات التي عشتها في الصبا، سنوات كانت تنضح بالبراءة والصفاء، حاملة معها أحلاماً كثيرة طواها الزمن، لكنني بفضل الله قد تمكنت من تحقيق جزء كبير منها، تلك السنوات كانت بمثابة عالم خاص يحتضن أسراره وأحلامه، وكان لها أثر عميق في تكوين شخصيتي وتشكيل نظرتي للحياة، رغم مرور الزمن وتوالي الأيام، تبقى تلك الذكريات محفورة بعمق في وجداني، لا تفارقني أبداً، وأحتفظ بها بكل تفاصيلها، لأني أؤمن بأنها جزء لا يتجزأ من هويتي، وستظل دائماً منارة تنير لي طريقي مهما طال العمر أو تغيرت الظروف.

حين أنظر إلى الوراء، لا أندم بقدر ما أتعلم، فكل تجربة ناجحة كانت أو قاسية  قد شكلت جزءًا من هذا "أنا" الذي أعيشه اليوم، تعلمت أن الخسائر لا تعني نهاية الطريق، وأن التراجع أحيانًا هو مقدمة لقفزة أعظم. وتعلمت كذلك أن الصمت لغة راقية، وأن النضج لا يُقاس بالسنوات، بل بالوعي الذي نكتسبه في مواجهاتنا اليومية مع أنفسنا والعالم، أما عن العام الجديد، فلا أستقبله بخطط صارمة ولا وعود مثالية، بل أتطلع إليه بقلب مفتوح، أسأل الله التوفيق والسداد، وأدعو أن يحمل هذا العام لي ولمن أحبهم نورًا، وهدوءًا، ورضًا صادقًا، أرغب فقط أن أكون أفضل قليلًا مما كنت عليه، أن أظل وفيًا لما أؤمن به، وأن أستمر في التعلم والنمو، ولو ببطء.

في يوم ميلادي، لا أحتفل بمرور عام، بل أُحيي بدايته من جديد، أُعيد ترتيب أوراقي، أُخفف حمولة ذاكرتي، وأُهيئ روحي لأن تستقبل الحياة بما فيها، فكل عام جديد هو فرصة، وكل لحظة تمر تستحق أن نعيشها بوعي، حتى لو لم تكن مثالية، أشعر بالامتنان لكل من مر في حياتي، لكل من أحببت ومن تعلمت منه، ولكل لحظة شكلتني، حتى لو لم تكن كما تمنيت، واليوم، لا أُطالب بالكثير، فقط بدوام القوة الداخلية، والسكينة، والأمل الذي لا يخبو، وللحق إننى أشعر بأنى أكتب هذا المقال ليس عن عيد ميلاد فحسب، بل هو عن الحياة نفسها، عن الإنسان حين يقف وجهًا لوجه مع ذاته، ويقرر أن يستمر، أن يُحب أكثر، أن يصفح أكثر، وأن يعيش بعمق، لا بعدد السنوات، بل بصدق التجربة.

وها أنا، في هذا الموضع الفاصل بين ما كان وما سيكون، لا أملك سوى التأمل، التأمل في نفسي، في تجاربي، في اختياراتي، في كل ما مرّ وترك في الروح ندبة أو وردة، لم تعد الحياة كما تخيلناها في البدايات، بسيطة الخطى وواضحة الطريق، بل صارت أكثر تعقيدا، وأكثر إثارة أحيانا، وأكثر غموضا في أحيان كثيرة، ومع ذلك، تظل كل لحظة منها تستحق أن تعاش، أصبحت أُدرك الآن أن النضج لا يأتي فجأة، بل ينمو فينا مثل غرس صغير، يحتاج لسنوات من الانكسار والصبر والإيمان بالنفس، نعم أصبحت أدرك أن ما كنا نظنه خسارة، قد يكون بداية خفية لشيء أعظم، وأن كل عثرة كانت تدريبا للروح، وكل وداع كان تمهيدًا للقاء أكثر صدقا، وأننا في كل مرة نظن أننا انتهينا، نكتشف أننا بدأنا من جديد، بشكل آخر، وقلب أقوى، ربما لا أملك إجابات نهائية، ولا أطمح إلى ذلك، لكنني أملك الآن شعورا بالتصالح مع ما مضى، وفضولا هادئا تجاه ما هو قادم، أعلم أن الطريق لا يزال طويلًا، وربما مليء بالتعرجات، لكن في داخلي بوصلة صغيرة اسمها "الإيمان"، تذكرني بأنني ما دمت أتنفس، فما زال هناك متسع للحلم، وللتغيير، ولأن أكون نسخة أقرب إلى ما أريده لنفسي، ولعل أجمل ما في الأعوام هو أنها تمنحنا الفرصة لتكرار المحاولة، لتصحيح المسار، ولإعادة اكتشاف الذات، ولهذا، أستقبل عامي الجديد لا باحتفال صاخب، بل بحوار صامت بيني وبين نفسي، حوار عنوانه الهدوء، ومحتواه الرغبة في السلام، والشغف بالاستمرار، ويا عامي القادم، كن خفيفا على القلب، عميقا في المعنى، محملاً بالتجارب النبيلة، والدروس الحكيمة، والمفاجآت الطيبة، وليكن ما مضى تهيئة لما هو أجمل.

الصفحة السابعة من العدد رقم 417 الصادر بتاريخ 26 يونيو 2025
تم نسخ الرابط