اليوم العالمي للتطوع .. والكشف عن حقيقة جوهر الإنسان
- الإنسان مهما تغيرت صور الحياة حوله ما زال يحتفظ بجذوة الخير في أعماقه
- هناك ملامح واضحة لمنهج جديد يجعل التطوع جزءًا من رؤية وطنية تستند إلى التخطيط لا إلى العشوائية
- التطوع حين يتحول إلى قيمة مجتمعية عامة لا يبقى مجرد عمل فردي بل يصبح جزءًا من هوية بلد
- التطوع في عالم اليوم لم يعد رفاهية أخلاقية.. نحن نعيش في عالم تتسع فيه الفجوات بسرعة هائلة
- المتطوعون قوة كونية هائلة قادرة على إعادة تشكيل المجتمعات لو قررت أن تتحرك في اتجاه واحد
- التغيرات الاقتصادية والاجتماعية تتطلب مشاركة أكبر من الأفراد في دعم الفئات الأكثر احتياجًا
كنت وما زلت أؤمن بأن قيمة المجتمعات لا تُقاس بما تملكه من ثروات أو ما تبنيه من أبراج شاهقة، بل تُقاس بما تزرعه في نفوس أبنائها من استعداد للعطاء.
وربما لهذا السبب تحديدًا توقفت طويلًا أمام التقرير الذي تناول "اليوم العالمي للتطوع"، ليس باعتباره مناسبة دولية تُذكّر العالم بالخير، بل باعتباره مرآة صادقة تكشف ما تبقّى في هذا العالم من إنسانية.
ففي زمن يزداد فيه الفرد انشغالًا بذاته، ويضيق فيه قلب العالم بأزماته، يصبح الحديث عن التطوع فعلًا من أفعال المقاومة؛ مقاومة القسوة، مقاومة اللامبالاة، مقاومة التحول إلى عالم لا يرى إلا مصلحته العاجلة.
ما أثار دهشتي الحقيقية هو ذلك الرقم الذي لا يمكن المرور عليه مرور العابرين: مليار شخص حول العالم يمارسون التطوع.
رقم بدا لي في اللحظة الأولى أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع، لكنه - حين أعدت قراءته - تحوّل إلى شهادة دامغة على أن الإنسان، مهما تغيرت صور الحياة حوله، ما زال يحتفظ بجذوة الخير في أعماقه.
ومليار شخص لا يمكن أن يكونوا مجرد تفاصيل، بل هم قوة كونية هائلة قادرة على إعادة تشكيل المجتمعات لو قررت أن تتحرك في اتجاه واحد.
اللافت للنظر أن التقرير أوضح أن معظم أعمال التطوع في العالم تتم بصورة غير رسمية، أي بعيدًا عن المؤسسات والمنظمات.
وهذا وحده كافٍ ليؤكد لي ما كنت أراه دائمًا: أن التطوع ليس قرارًا تنظيميًا بقدر ما هو حالة شعورية، إحساس داخلي يدفع الإنسان إلى أن يمد يده للآخر دون طلب أو ضغط أو انتظار مقابل.
وهذا النوع من التطوع — في تقديري الشخصي - هو أكثر الأنواع صدقًا وتأثيرًا، لأنه نابع من وجدان الإنسان لا من إطار إداري.
وحين انتقلت إلى الجزء المتعلق بمصر، شعرت بشيء يشبه الفخر الهادئ. فالدولة - عبر قانون الجمعيات الأهلية وتنظيم العمل التطوعي - وضعت إطارًا يحمي هذا الجهد الإنساني ويضمن استدامته.
وقد توقفت عند هذا التفصيل طويلًا، لأن مصر لعقود طويلة كانت تعتمد على المبادرات الفردية، التي مهما كانت عظيمة، لا يمكنها وحدها أن تبني منظومة حقيقية.
أما اليوم، فهناك ملامح واضحة لمنهج جديد يجعل التطوع جزءًا من رؤية وطنية تستند إلى التخطيط، لا إلى العشوائية.
كنت أتأمل أيضًا ذكر مبادرات كبرى مثل "حياة كريمة"، والهلال الأحمر المصري، وبرامج الحماية الاجتماعية، وكلها تؤكد أن فكرة التطوع أصبحت تتداخل مع المشروع التنموي للدولة، لا باعتبارها مساعدة عابرة، بل باعتبارها عنصرًا رئيسيًا في إعادة بناء المجتمع.
وهذا التحول - من وجهة نظري - هو ما يجب التوقف عنده؛ لأن التطوع حين يتحول إلى قيمة مجتمعية عامة، لا يبقى مجرد عمل فردي، بل يصبح جزءًا من هوية بلد.
ومع ذلك، فإنني لا أستطيع أن أتجاهل فكرة ظلّت تطاردني وأنا أقرأ التقرير: هل نريد أن يكون التطوع "يومًا للاحتفال" أم "حالة للعيش"؟ وهل يكفي أن نرفع شعار "اليوم العالمي للتطوع" لكي ندّعي أننا نمتلك مجتمعًا صحيًّا يقوم على المساندة والتكافل؟ في تقديري الشخصي، اليوم العالمي للتطوع مهم، لكن الأهم منه أن نخلق في نفوس الناس إحساسًا دائمًا بأن قضايا المجتمع ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل مسؤولية كل فرد - مسؤولية لا يمكن التهرب منها أو الاكتفاء بالاحتفال بها مرة واحدة في العام.
وقد ظللت أتمهل أمام سؤال آخر لا يقل أهمية: لماذا يتطوع الناس أصلًا؟ البعض يفعل ذلك لأنه يري في التطوع امتدادًا لقيم تربى عليها.
البعض الآخر يبحث عن معنى لحياته، معنى يتجاوز دوائر العمل والمال والإنجازات الشخصية.
وهناك فئة ثالثة تفعل ذلك لأنها - ببساطة - لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي أمام معاناة غيرها.
وفي كل الأحوال، التطوع يعكس ذلك الجزء النقي في الإنسان، ذلك الجزء الذي لم تنجح الحياة بعد في تشويهه.
لكن وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن التطوع - في عالم اليوم - لم يعد رفاهية أخلاقية.
نحن نعيش في عالم تتسع فيه الفجوات بسرعة هائلة: فجوة اقتصادية، فجوة اجتماعية، فجوة تعليمية، وحتى فجوة إنسانية.
والفرد وحده لا يستطيع عبور هذه الفجوات.
والمجتمع أيضًا لا يستطيع ذلك دون تكاتف وعمل جماعي يؤمن بفكرة "نحن"، لا بفكرة "أنا".
لهذا أرى أن التطوع اليوم يمثل واحدة من أهم الأدوات التي يمكن أن تعيد التوازن لهذا العالم المرهق والمحمّل بالاحتياجات.
أكثر ما جعلني أستشعر قيمة التطوع هو أنه يكشف لنا حقيقة بسيطة هي: لسنا وحدنا، فالعطاء - مهما بدا صغيرًا- يصنع سلسلة من التأثيرات غير المرئية.
قد يتطوع شخص لساعتين فقط، لكنه يزرع في قلب آخر أملًا قادرًا على تغيير مسار حياته بالكامل.
وقد يتطوع شاب في تعليم طفل، فيفتح له بابًا كان سيبقى مغلقًا طوال عمره.
التطوع هو ذلك الفعل الصغير الذي لا يمكن قياسه بالأرقام، لكن يمكن قياسه بما يتركه من أثر طويل المدى في النفوس.
ولأنني دائمًا أضع المجتمع المصري في مقدمة تفكيري، فإنني لا أرى التطوع مجرد جزء من صورة جميلة، بل أراه ضرورة.
نحن مجتمع لديه قدرات هائلة، لكنه يحتاج إلى إعادة تفعيل روح التكافل التي كانت - وما زالت - جزءًا من شخصيته التاريخية.
وأعتقد أن اللحظة الراهنة مناسبة تمامًا لإحياء هذا الدور، خصوصًا في ظل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلب مشاركة أكبر من الأفراد في دعم الفئات الأكثر احتياجًا.
في النهاية، يمكنني القول إن "اليوم العالمي للتطوع" ليس احتفالًا بقدر ما هو دعوة.
دعوة لأن ننظر لأنفسنا في المرآة ونطرح سؤالًا صريحًا: هل نفعل ما يكفي من أجل غيرنا؟ وهل نملك الشجاعة لنمنح جزءًا من وقتنا، ومن طاقتنا، وربما من حياتنا، لآخرين قد لا نعرفهم؟
أنا - وبصراحة - أرى أن الإجابة يجب ألا تكون مرتبطة بيوم أو مناسبة، بل يجب أن تصبح التزامًا أخلاقيًا يوميًا؛ لأن المجتمع الذي يتطوع أفراده هو مجتمع يبني نفسه من الداخل، مجتمع يعرف أن قوته الحقيقية تكمن في إنسانيته، لا في أي شيء آخر.
وهكذا، يظل التطوع أجمل ما يمكن أن يقدمه الإنسان للإنسان.
ليس لأنه واجب، بل؛ لأنه فعل يعكس جوهر وجودنا نفسه: القدرة على أن نكون سندًا، نورًا، أملًا… ولو لوقت قليل.




