الأحد 01 يونيو 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

الديمقراطية ليست صندوقًا فقط… بل "وعي وإرادة وتشريع"

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- الديمقراطية الحقيقية تنبع من المشاركة والشفافية لا من مجرد آلية انتخاب 

- إعادة رسم الخريطة النيابية لإنهاء تهميش القرى والمراكز وتحقيق عدالة تمثيلية للمناطق المهمشة

- موضوع رفع التأمين الانتخابي وسيلة لترشيد الترشح وإبعاد الباحثين عن الاستعراض

- استقرار قواعد اللعبة الانتخابية يصنع بيئة سياسية أكثر ثقة واستدامة

- القائمة النسبية المؤجلة.. التدرج السياسي أولى من القفز

- عدم تطبيق القائمة النسبية الكاملة سببه غياب التوافق المجتمعي

- تعديل قوانين الانتخابات… حين تتكلم الدولة بلغة العقل والقلب معًا

توقفت طويلًا أمام الجلسة العامة لمجلس النواب حين أقر تعديلاته الأخيرة على قوانين الانتخابات.

لم يكن المشهد مجرد إجراء اعتيادي في مؤسسة تشريعية تمضي وفق جدول أعمالها، بل كان أقرب – في تقديري الشخصي – إلى لحظة صدق مع النفس.

لحظة اختارت فيها الدولة أن تراجع نفسها، وأن تضع يديها على خريطة المستقبل، دون مواربة، أو مجاملة، أو خضوع للمعتاد

كنت وما زلت على قناعة تامة بأن الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخابات ولا عملية فرز أصوات.

الديمقراطية هي الإرادة التي تصنع القرار، والمشاركة التي تصنع الأمل، والتشريع الذي يصنع الثقة بين المواطن والدولة.

ومن هذا المنطلق، فإن تعديل قوانين الانتخابات لم يكن مجرد مراجعة لنصوص، بل مراجعة لمفاهيم، واستجابة لاحتياج طال انتظاره في مشوار التحول نحو جمهورية جديدة، تؤمن بأن بناء الوطن يبدأ من البرلمان، وينضج في التشريع، ويكتمل في الممارسة.

ما جرى تحت قبة البرلمان لم يكن تفصيلًا إداريًا كما قد يظنه البعض.

بل كان تمرينًا سياسيًا ناضجًا على كيفية إدارة التوازن بين الاستقرار والتغيير، بين احترام الثوابت والتجاوب مع المتغيرات، بين الصوت العالي في الشارع، والصوت العاقل في القاعة.

كانت الدولة تقول، بهدوء الواثق، إنها لا تخاف من فتح الملفات، وإنها تؤمن بأن الزمن لا يصالح أحدًا إلا من كان صادقًا في تعامله مع الناس.

حين قرأت تفاصيل التعديلات، خاصة ما يتعلق بإعادة توزيع مقاعد مجلس النواب، وتعديل تقسيم الدوائر، شعرت بأن هناك شيئًا عميقًا يتغير في فلسفة الحكم.

تخصيص 102 مقعد لكل من دائرة جنوب ووسط الدلتا، ودائرة شمال ووسط وجنوب الصعيد، ليس مجرد أرقام.

بل هو محاولة لتصحيح تشوهات قديمة في التمثيل النيابي، ومحاولة حقيقية لفك الحصار عن مناطق كانت تعاني – وربما بصمت – من تهميش برلماني امتد لسنوات.

لأول مرة، أحس أن المشرّع استمع جيدًا لصوت القرى البعيدة، والمراكز التي لا تصلها عدسات الكاميرات، والمواطنين الذين ظنوا أن البرلمان حكر على الحواضر الكبرى.

أنا ابن هذه الأرض.

وأعرف كم يوجع الإحساس باللاجدوى حين تذهب بصوتك إلى صندوق الانتخاب وأنت تعلم أن صوتك لن يغيّر شيئًا.

التعديلات الأخيرة قالت بوضوح: لا، نحن نسمعكم.

نحن نراكم.

ونحن نعيد رسم الخريطة لتكونوا أنتم أيضًا جزءًا من القرار، لا هامشًا فيه.

وقد يعترض البعض على فكرة زيادة قيمة التأمين للمرشحين، سواء على النظام الفردي أو القوائم.

لكني أرى أن هذه الزيادة ليست عائقًا بقدر ما هي أداة لترشيد السباق.

نحن نحتاج إلى برلمان جاد، لا ساحة استعراض.

نحتاج إلى مرشحين يتحملون المسئولية لا يركبون الموجة.

ولعل التجربة علمتنا، أكثر من مرة، أن تساهلنا في قواعد الترشح جلب لنا برلمانات تشبه ضجيج الشارع أكثر مما تشبه عقل الوطن.

أما أكثر ما استوقفني في الجلسة، فكان حديث المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، حين أكد أن التعديلات تهدف إلى تثبيت النظام الانتخابي.

في لحظة بدا فيها العالم كله يتقلب في أنظمته، اختارت مصر أن تثبّت أقدامها

وهذا – في رأيي – ليس قرارًا تقنيًا، بل هو قرار سياسي كبير، يعكس رؤية تؤمن بأن الدولة التي تتغير كل صباح تفقد قدرتها على صناعة الثقة.

إن ثبات النظام الانتخابي ليس جمودًا كما يظنه البعض، بل هو احترام لعقل المواطن.

أن يعرف الناس قواعد اللعب، ويطمئنوا أنها لن تتبدل مع تبدل المناخ.

أن يشعر المواطن بأن ما اختاره اليوم سيظل ساريًا غدًا، وأن الدولة لا تغير قواعدها إلا حين تكون مضطرة، لا حين تكون مترددة.

صحيح أن التعديلات لم تشمل الانتقال إلى نظام القائمة النسبية الكاملة، رغم طرحه في الحوار الوطني، لكن هذا أيضًا فيه حكمة.

فالتشريع، كما علّمتنا تجارب الشعوب، لا ينجح إذا لم ينطلق من تربة مجتمعية قابلة له.

وقد أوضح المستشار محمود فوزي أن غياب التوافق حول القائمة النسبية كان كافيًا لتأجيل إدراجها.

وهذا موقف يُحسب لا يُنتقد.

فالديمقراطية لا تُبنى بالإملاء، بل بالتوافق، ولا تُكتب على الورق فقط، بل تُقرأ في وجوه الناس، وتُقاس بدرجة تقبّلهم لما يُطرح عليهم.

كنت أتمنى، كما تمنّى كثيرون، أن ننتقل يومًا ما إلى القائمة النسبية، باعتبارها أكثر عدالة في التمثيل.

لكني أؤمن أكثر بأن العدالة الحقيقية تبدأ حين يكون الناس شركاء في الاختيار، لا حين نفرض عليهم نموذجًا حتى وإن بدا مثاليًا.

التدرج في التغيير إحدى سمات العقل السياسي الرشيد، وقد اختارت الدولة أن تتدرج، لا أن تقفز، وهو ما أحترمه وأتفهمه.

ما يدعو للفخر أن التعديلات تمّت في مناخ من الشفافية، وتحت قبة لم تغلق بابها أمام النقاش.

وقد كان بإمكان الدولة أن تمضي بها دون شرح، لكنها اختارت أن تُحاور، وأن تشرح، وأن تُطمئن.

وهذا في حد ذاته سلوك سياسي نادر، لا يخرج إلا من دولة واثقة لا تخشى النقد، ولا تخاف من المكاشفة.

لقد كبرنا وتعلمنا أن الوطن لا يُبنى بالعناوين الرنانة، بل بخطوات ثابتة.

واليوم، ونحن نُعد العدة لانتخابات برلمانية جديدة، نحتاج أن نتوقف لحظة، ونسأل أنفسنا: هل نحن مستعدون لاختيار برلمان لا يُكمل مشهد الديمقراطية فقط، بل يراقب، ويشرّع، ويُحاسب؟

هل نملك ما يكفي من الوعي لتمييز من يستحق عمن يرفع الشعارات؟ وهل نملك الشجاعة لنرفض من خذلنا يومًا، حتى لو عاد متجملًا؟

القانون وحده لا يصنع ديمقراطية.

من يصنعها هو الناخب حين يدرك أن صوته أمانة، وأن البرلمان ليس مقعدًا، بل موقع مسئولية.

وأي تعديلات مهما بلغت روعتها، لن تُجدي إذا لم تُقابلها إرادة وطنية صادقة لاختيار الأفضل.

لهذا أقول: نعم، تعديل القوانين كان ضروريًا. نعم، توزيع الدوائر خطوة في الطريق الصحيح.

ونعم، الحفاظ على ثبات النظام الانتخابي يُطمئن الجميع.

لكن الأهم، أن نُحسن نحن، كمواطنين، استغلال هذه المساحة التي تُمنح لنا، ونكون على قدر ما تحمله هذه التعديلات من مسئولية ورجاء.

مصر لا تبني برلمانًا فقط، بل تُبني وعيًا، ومؤسسات، وثقة بين الحاكم والمحكوم.

ومن هنا، فإن كل تعديل قانوني ليس مجرد نص، بل رسالة.

رسالة تقول لنا جميعًا: لقد حان الوقت لنشارك بوعي، لا بردّ فعل.

أن نختار من يمثلنا بقلب ناضج، لا بحماس عابر.

وأن نُدرك أن الديمقراطية لا تسكن في صندوق الاقتراع فقط، بل تبدأ من داخلك، من إحساسك بأنك جزء من القرار، لا عابر في مشهد.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 414 الصادر بتاريخ 29 مايو 2025

 

تم نسخ الرابط